من الرصاص إلى السموم: السودان بين خطرين

من الرصاص إلى السموم: السودان بين خطرين
  • 19 سبتمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

بقلم: د. جوليا فؤاد السيد هارون

إذا كانت الرصاصة تُمزّق الجسد بصوت مسموع، فإن المخدرات تُذيب الروح بصمت قاتل. الرصاصة تترك دمًا على الأرض، أما المخدرات فتترك فراغًا في العيون وأحلامًا تُدفن وهي ما زالت في المهد. في السودان، لم تعد الحرب مقتصرة على الجبهات وحدها، بل هناك حرب أخرى تُدار بصمت داخل الأحياء والجامعات والمنازل، حرب لا نراها لكنها تحوّل الشباب إلى أطلال، وتترك الوطن بلا مستقبل. إنها ليست مادة تُستهلك، بل سلاح يُوجَّه، أخطر من المدفع لأنه لا يقتل الحاضر فقط، بل يسلب الغد أيضًا.

المخدرات لا تدخل عبر الدبابات، بل عبر الأكياس الصغيرة والحبوب الملونة. تبدأ القصة بـ “تجربة” عابرة، ثم تتحول إلى عادة، ثم إلى قيد يكبّل صاحبه. في الشوارع والأماكن العامة، يتحرك الشباب كظلال، عيونهم فارغة، ووجوههم تتحدث أكثر مما تقول الكلمات. الجامعات والأسواق والمقاهي صارت مسرحًا لانتشار المخدرات، والقبول بها صار طبيعيًا لدى بعض الشباب. وبينما نتابع أخبار الحروب المسلحة على الحدود، هناك رصاص آخر يسكن في عروق الشباب، لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يقتل الحلم ويذيب المستقبل. المخدرات أصبحت سوقًا مفتوحًا للسموم، وطريقًا سهلًا لكل من يبحث عن مهرب من ضغوط الحياة، تاركة أثرًا طويلًا في المجتمع كله.

هذا هو المنطق الخبيث الذي يحكم تجارة الموت: الرصاصة تقتل جسدًا واحدًا، بينما المخدرات تفتك بجيل كامل. الحرب المسلحة مهما طالت تُحسم في النهاية باتفاق أو هدنة، أما حرب المخدرات فهي بلا نهاية، بلا خط جبهة، وبلا هدنة. المخدرات تُستعمل كسلاح استراتيجي ناعم: لا يحتاج إلى دبابات أو طائرات، يكفي أن تتسرب عبر الحدود أو بأيدي مروجين صغار لتبدأ في تدمير العقول من الداخل. وهنا تكمن خطورتها: فهي تستهدف ما لا يُعوّض — وعي الشباب وأمل المستقبل.

انتشار المخدرات في السودان لم يكن حادثًا عابرًا، بل نتيجة تراكمات صنعت البيئة المثالية للكارثة. الأزمات الاقتصادية الطاحنة دفعت الشباب إلى الهروب نحو أي مخرج، ولو كان في فخ المخدرات. انهيار التعليم والثقافة تركهم بلا بدائل، ضعف الرقابة على الحدود جعل البلاد ممرًا سهلاً للسموم القادمة من كل اتجاه، والصمت الاجتماعي حول المخدرات زاد المشكلة تعقيدًا. كل هذه العوامل صقلت واقعًا قاتمًا: شباب ضائع، أسر مفككة، ومجتمع ينهش نفسه بنفسه.

عدوّنا ليس المخدرات وحدها، بل شبكة كاملة تتغذى من ضعفنا: تجار كبار يختبئون خلف أموالهم، مروجون صغار يبيعون السموم كما يُباع الخبز، حدود رخوة، ومسؤولون يغمضون أعينهم عن الخطر. لكن الأخطر من هؤلاء جميعًا هو اليأس. الشاب الذي لا يرى مستقبلاً ولا يملك فرصة للنجاح، سيكون صيدًا سهلًا في يد تجار السموم. المعركة الحقيقية إذن ليست فقط أمنية، بل تبدأ من الأسرة، حيث يُزرع الوعي ويُبنى الحوار مع الأبناء قبل أن يصلهم إغراء السموم، مرورًا بالمجتمع الذي يوفر بدائل للفراغ، وصولًا إلى المؤسسات التعليمية والثقافية التي تمنحهم فرصًا حقيقية.

مواجهة المخدرات تبدأ بالوعي قبل كل شيء. يحتاج الأبناء إلى حوار صريح ومفتوح عن المخاطر، إلى استماع لمشاكلهم ومخاوفهم، وإلى شعور دائم بالأمان والدعم. تتسع هذه التوعية لتصل إلى المجتمع، حيث يجد الشباب بدائل لفراغهم عبر الأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية، وفي المؤسسات التعليمية التي توفر فرصًا حقيقية للتعلم والعمل. العلاج لا يقتصر على الجانب النفسي فقط، بل يشمل إعادة بناء حياة المدمن، من خلال برامج تأهيل تساعده على استعادة كرامته وتعلم مهارات جديدة تمكنه من الاعتماد على نفسه. في هذا الطريق، تصبح الدولة والمجتمع والأسرة جميعًا شركاء في حماية المستقبل، وتقديم فرص حقيقية للشباب لتجاوز الإدمان واستعادة الحياة التي فقدوها.

الفشل في هذه الحرب لا يعني مجرد ارتفاع أعداد المدمنين، بل انهيار المجتمع من الداخل. نفقد معلمين كانوا سيقفون أمام السبورة، وأطباء كانوا سينقذون الأرواح، ومهندسين كانوا سيبنون المدن. تتحول الأحياء إلى بؤر للجريمة، تنهار الأسر تحت وطأة اليأس والعار، ويصبح الوطن قائمًا جغرافيًا فقط بلا روح، بلا طاقة، بلا أمل.

المخدرات ليست مجرد أزمة اجتماعية أو ظاهرة هامشية، بل حرب حقيقية تُدار بلا صوت، بلا مدافع، وبلا جبهات معلنة. الرصاصة تترك أثرًا يُرى، أما المخدرات فتترك أثرًا طويل المدى يُهدم العقول ويقتل المستقبل. المعركة الحقيقية اليوم هي حماية العقول قبل حماية الحدود، وحماية الجيل قبل حماية الأرض. إذا لم ندرك حجم الخطر ونتحرك بجدية، فقد نصحو يومًا لنكتشف أننا خسرنا الحرب الوحيدة التي لا رجعة بعدها: حرب المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*