نحو خارطة طريق موازية وسردية بديلة للسلام في السودان

سبقت حرب 15 أبريل 2023 إرهاصات ومؤشرات، حيث بلغت درجة الاستعداد الإعلامي القصوى، ودُقّت طبول الحرب، وجُهّزت غرف الدعاية الحربية والآلة الإعلامية وصياغة السرديات، وبلغت أعلى مستوياتها مقارنة بالاستعداد العسكري. وما إن أكملت قوى الردّة والثورة المضادة تحضيراتها اللازمة للحرب، ووصل التحشيد قمّته، وأُفشلت محاولات التهدئة، حتى أُطلقت الرصاصة الأولى لتعلن عن بداية حرب لا هوادة فيها، ظنّ مشعلوها أنها لن تستغرق سوى بضع ساعات أو أيام. منذ تلك اللحظة أصبحت السردية والدعاية هما من يقودان المعارك في الميدان، ويغذيان نيرانها بتوحّش وقبح الكلم. وبلا مبالغة، فإن كثيرًا من التوجيهات العسكرية كانت تُطلق عبر منشور أو بث مباشر أو فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي. إذن فإن حرب السرديات سابقة للمواجهة العسكرية بل وموجِّهة لها؛ وهذه هي الحقيقة المجرّدة.
اعتمدت سردية الإسلامويين للحرب على ركائز محددة، وظلت تُكرَّر بصورة مملة، بأنها حرب كرامة لاستعادة السيادة، وحرب ضد انقلاب على السلطة، وحرب ردّ عدوان خارجي. وانجرت وراءها قيادة الجيش، وتبنّتها بشكل كامل ولم تستطع الخروج عنها، وأصبحت منقادة لها رغم محاولاتها التخلّص من محمولاتها الثقيلة التي تشير إلى العودة للسلطة من جديد. وبالتالي فشلت كل سانحة لوقف الحرب، وسيطر خطاب استمرارها. في الجانب الآخر من الحرب اعتمدت سردية الدعم السريع على إنهاء دولة 56، وإزالة التهميش، واستعادة الديمقراطية، ومحاربة فلول النظام البائد، ولاحقًا تبنّي خطاب علماني يغذي استمرار الحرب أيضًا. بالمقابل، اعتمدت سردية القوى المدنية الديمقراطية على رفض الحرب، والدعوة إلى العودة للتفاوض، والتأكيد على أنه لا نصر عسكريًّا، وأن الحل السياسي هو المدخل الصحيح لمعالجة ظلامات الماضي وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد بناء الدولة على أسس مشروع وطني. عبّرت هذه السردية في بداية الحرب عن مواقف أغلب القوى المدنية تقريبًا عدا الإسلامويين، ولكن سرعان ما تأثرت قوى منها – سيما الحركات المسلحة والقوى التي دعمت انقلاب 25 أكتوبر – فانحازت إلى معسكري الحرب وتبنّت مواقف أكثر تشددًا لتقديم فروض الولاء والطاعة. وأصبحت المناداة بالسلام جريمة، وانطلقت حملات شيطنة وتخوين واسعة النطاق لكل من يقول: “لا للحرب”، وسادت مقولة “من ليس معنا فهو ضدنا”.
بُنيت سرديات الحرب على خطاب الكراهية والتمييز العنصري والتضليل والأكاذيب وتبرير الجرائم والخداع والتنميط والعنف اللفظي والتشنج والشطط. واستخدمت الغرف الإعلامية لطرفي الحرب كل الإمكانيات المادية والبشرية لخلق وعي زائف، ساحته مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، للتحكم في عقول وقلوب الناس. وانتشرت ظاهرة “اللايفاتية” كالنار في الهشيم، وتنوّعت فبركات الذكاء الاصطناعي، واغتُرق المجال العام بكم هائل من فاحش القول والإسفاف والابتذال والتنمر والسقوط الأخلاقي. وأصبح كل من ينشر محتوى كراهية وعنصرية يجد من يمجدونه، في الوقت الذي يُوصم بالعار كل من يدعو للسلام وإيقاف الحرب. لقد حوّلت السرديات طبيعة الحرب من صراع على السلطة إلى حرب على الدولة والمجتمع، وكرّست للانقسام السياسي والمجتمعي، وسمّمت المناخ العام الذي يردد بلا وعي «بل بس». رسخت الإقصاء المطلق، وأحدثت ارتباكًا بتشتيت الانتباه عن المخاطر الجمة التي تحدق بالوطن، وعمّقت الأزمة بصورة خطيرة تنذر بتشظي الدولة وانهيارها “من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنبًا”.
صحيح أن غرف الدعاية الحربية نجحت في تحقيق أهدافها بتغذية الحرب بكل عوامل استمرارها وفق معايير التدمير والتقتيل والتجويع والتخريب والتوحش والمعاناة، كما كشفت التقارير الصادمة والحقائق الدامغة. لكن من المعلوم أن الحروب تُقاس بنتائجها السياسية وما يترتب عليها لصالح الشعوب مقارنة بالخطاب والسردية. وفي هذا، فإن كل المؤشرات تؤكد أن سرديات الحرب تآكلت واحدة تلو الأخرى حتى سقطت وهوت بها الريح في مكان سحيق، وانكشف الوجه الحقيقي لما وراءها. فلم تصمد سردية “ديمقراطية البندقية” أمام الانتهاكات الواسعة والجرائم الجسيمة، كما بدّدت حقائق الواقع سردية “كرامة الإسلامويين”، إذ جعلوها حربًا على السودانيين بالإهانة والانتقام والتعذيب والتجويع والقتل على أساس الهوية والتشريد في معسكرات النزوح واللجوء وضياع السيادة الوطنية. نعم، بعد عامين ونصف سقطت أقنعة الديمقراطية الزائفة والكرامة المهدرة تحت وطأة تناقضاتها وعقمها، وفشلها في إخفاء الممارسات المخزية أمام شاشات الهواتف المحمولة وأمام الضمير الإنساني. لقد فضحت الأيام النوايا الخبيثة والأكاذيب المزروعة وهراء سردية الحرب ودعاية القتل المجاني وضحالة البحث عن سلام قائم على الغلبة، والذي يعد فصلًا جديدًا من استمرار الحرب في ظل تغيّر موازين القوى المستمر.
تنامى الوعي الشعبي وتراجعت دعوات استمرار الحرب، وبرزت سردية السلام لتفرض حضورها بقوة في المشهد السوداني. فهي ليست مجرد رواية مغايرة، بل مشروع وطني يعيد جدلية التأويل والرؤى السياسية بدلًا من الرصاص والصراخ والقبح والكراهية “بضدّها تستبين الأشياء”، فالسلام الذي كان بعيدًا ومستحيلًا في ظنهم أصبح قاب قوسين أو أدنى. فقد خرج من ليل الحرب الطويل الدامس فجر السلام، وإمكانية تحقيقه أصبحت مواتية، وبدأت تخبو شرارة الوعي الزائف والتضليل لصالح شرارة الأمل والحقيقة وعودة الوعي.
مثّل بيان الرباعية – الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات – الصادر بتاريخ 12 سبتمبر 2025، اختراقًا كبيرًا في المشهد السوداني بما يحمله من توجه جديد لحل الأزمة السودانية، بمبادئه المتمثلة في: سيادة السودان ووحدته، ورفض الحل العسكري، واعتبار الحرب تهديدًا للسلم والأمن، وضمان وصول الدعم الإنساني، وحماية المدنيين، وإقامة حكم مدني انتقالي. وخارطة طريق متمثلة في: هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر للمساعدات الإنسانية، ووقف إطلاق نار دائم، وعملية سياسية شاملة لمدة تسعة أشهر، وحكومة انتقالية مدنية مستقلة. وفق تدابير ووسائل تنفيذ متمثلة في متابعة الرباعية نفسها لتنفيذ الخطط وتقديم الجهود اللازمة، ودعم عملية تفاوضية بين الجيش والدعم السريع لوقف دائم لإطلاق النار بمرجعية اتفاق جدة، وعملية سياسية بمرجعية مؤتمر القاهرة، ومكافحة التهديدات الأمنية العابرة للحدود من الجماعات الإرهابية وأمن البحر الأحمر بالتصدي المشترك، وتكثيف الجهود والمساعدات الإنسانية بالتعاون الإقليمي والدولي. أما المواقف الواضحة فتمثلت في: تفاوض الجيش والدعم السريع، ورفض عودة الإسلامويين، ومشاركة القوى المدنية في انتقال شامل، وتكوين حكومة مدنية مساءلة، ورفض أي دعم لطرفي الحرب. وبالتالي، فإن بيان الرباعية قذف بحجر كبير في بركة ساكنة، ووضع خطة لوقف الحرب ومعالجة الكارثة الإنسانية والحل السياسي، كأول مشروع يخاطب بوضوح أزمة الحرب ويسعى إلى حلها بدلًا من إدارتها.
ومثّل إبعاد الإسلامويين نقطة محورية للوصول إلى سلام في السودان، باعتبارهم قوة خبيثة لعبت دورًا خطيرًا خلال حكم البشير، وأعاقت الانتقال، وتسببت في الانقلاب، وأشعلت الحرب، وعرقلت الوصول إلى سلام.
لقد استطاعت قوى الثورة المدنية أن تصمد في مواجهة رياح عاتية ووسط استقطاب عنيف بين معسكري الحرب، وواجهت حملات التشويه والتخوين والشيطنة بكل ثبات واستقامة على موقفها الرافض للانحياز وتمسكها بالحل السياسي، مما جعلها الضامن لوحدة السودان ضد مشروع التقسيم والتشظي، وخط الدفاع الأول في مواجهة مآلات الحرب الكارثية. وما جاء في بيان الرباعية يُعد انتصارًا وتعبيرًا عن تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة.
رسم بيان الرباعية خطة لوقف الحرب في السودان، وجدت دعمًا كبيرًا من الاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وكندا، وتشاد، والدنمارك، وجيبوتي، ومصر، وإثيوبيا، والإيغاد، وكينيا، والمملكة العربية السعودية، وجامعة الدول العربية، وليبيا، والنرويج، وقطر، وجنوب السودان، وسويسرا، وتركيا، وأوغندا، والإمارات العربية المتحدة، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية. كما دعمته القوى المدنية السودانية. ولكن هذا المجهود لن يُكتب له النجاح ما لم تصحبه خارطة طريق موازية ومكملة لخطة الرباعية، وسردية وطنية لسودنة السلام، وتعزيز الوحدة الوطنية، ومعالجة تداعيات الحرب الاقتصادية والاجتماعية ومسبباتها، وطرح تصورات الحل السياسي الشامل وبناء عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة المتساوية ويعيد اللحمة السودانية.
خارطة الطريق الوطنية الموازية تقوم على:
- وحدة السودان قضية محورية لا مساومة فيها، وهي أساس تصميم العملية السياسية لمجابهة تعقيدات واقع التقسيم الذي أفرزته الحرب، وتفكيك شبكات المصالح وامتيازات أمراء الحرب لصالح وحدة وطنية على أساس حكم ديمقراطي فدرالي حقيقي.
- الدعم السياسي للهدنة الإنسانية كقاطرة لبقية ترتيبات وقف إطلاق نار دائم، وكمتغير رئيسي لخلق مناخ جديد يوقف حدة الاستقطاب السياسي ويمكن السودانيين من العودة إلى منازلهم وممارسة حياتهم العادية.
- استنهاض كافة مكونات المجتمع السوداني لمجابهة الكارثة الإنسانية وتخفيف معاناة المواطنين، والمساهمة الفاعلة في ضمان وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها، ومحاصرة الفساد والاستغلال السياسي للملف الإنساني.
- إطلاق حوار بين القوى المدنية الرافضة للحرب لتوحيد الصوت المدني وتنسيق المواقف كمدخل لجبهة مدنية للسلام، وكتمهيد لحوار سياسي يعزز الملكية السودانية للعملية السياسية وتحديد دور المجتمعين الإقليمي والدولي.
- إبراز خطاب السلام الذي يفضح خطاب استمرار الحرب، ويضع هذه الحرب في سياقها الصحيح باعتبارها حربًا على الشعب السوداني وخصمًا على تطوره وتنميته وأمنه واستقراره. وهو خطاب يؤكد من المستفيد من الحرب واستمرارها ومحاكمته سياسيًا وأخلاقيًا، ويحدد حجم الانتهاكات والجرائم والخراب الذي خلّفته الحرب، ويستنهض كل قطاعات الشعب لتخفيف معاناة المواطنين وإطلاق حملات الإغاثة والرعاية الصحية والاجتماعية وحماية حقوق الإنسان. كما يعمل على تعبئة شعبية واسعة لوقف الحرب وعزل المروجين لها، ويضع في أولوياته تماسك المجتمع السوداني والحيلولة دون زرع الفتن بين القبائل والحرب الأهلية كتطور طبيعي لاستمرارها، ويضع ملامح سودان ما بعد الحرب وإعادة إعمار ما دمرته، ويعالج أسباب وجذور الأزمة ويستوعب التطورات التي فرضتها الحرب على المشهد السياسي، ويمسك الجبهة الداخلية في مواجهة قوى الردة، ويحاصر الكراهية والعنصرية والتطرف والشطط.
خارطة طريق وطنية موازية ومكملة لخطة الرباعية من شأنها تقديم مشروع وطني قابل للتنفيذ، وترياق لسردية المؤامرة دون بدائل سوى استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، ومن شأنها كسب شرعية شعبية ودولية لإرادة السلام والتحول المدني الديمقراطي. هذا هو نداء الواجب الوطني لاغتنام هذه الفرصة التاريخية في ظل تحولات إقليمية ودولية لصالح وقف الحرب وتحقيق السلام “ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب”.