الوسط الغنائي..من الاستنساخ إلى الاتساخ

قبل عدة أيام أثار تصريح فرفور بأن الوسط الفني من أتفه، وأحقر، الأوساط جدلاً واسعاً. ونتيجة لهذا تم فُصل المغني جمال فرفور من اتحاد المهن الموسيقية المعني بشؤون الفنانين، والمغنين. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما أثار ردود فعل قانونية تتعلق بحرية المغني في التعبير عن وسطه الذي ينتمي إليه من جهة، وكذلك تحركت – من الجهة الأخرى – فئات من الفنانين، والإعلاميين، لمناصرة المغني الذي ينتمي لجهاز أمن الحركة الإسلامية.
في السابق كانت أكثر تصريحات الفنانين التي تثير الجدل، بكل درجاتهم، تتمحور حول قضايا إشكالية عامة، وكذلك حول آرائهم الخاصة في أعمالهم، وأعمال الغير. ولكن نادراً ما يصب الفنانون كل جام غضبهم على أسرة الوسط الفني بوصفها أكثر تفاهة على النحو الذي تناول به فرفور تصريحه، متأثراً براهن علاقاته مع زملائه، وزميلاته.
وعلى كل حال فإن لكل زمان فني مواضيعه، وتحدياته، ونواميسه. فبعيداً عن سلامة محتوى التصريح مثار الجدل، أو عدمها، فإن حال الوسط الغنائي الآن يعبر عن مرحلة شديدة التدهور في الإنتاج المميز، والمبهر. وذلك ما يستدعي التساؤل عن قيمة هذه المغنية، أو ذلك المغني الآخر لو أنه خطف اهتمام الجمهور بتصريح يعمم اتساخ وسط المغنين بدلاً عن التخصيص.
فنحن نعرف أن الوسطين الغنائي، والرياضي، منذ تشكلهما في بدايات الحقيبة، ونشأة تيم عباس، ظلا من أفضل الأوساط في التعاون وسط عضويتهما لو قارناهما بالوسط السياسي مثلاً. فوسطا المغنين، والرياضيين، قائم على التعاون كقيمة أساسية للتطور عند كل مجال.
فإذا كانت الأغنية تعتمد على تكامل الأضلاع الثلاثة من شاعر، وملحن، ومغنٍ، فإن الجوقة الموسيقية تصهر كل هذه الاحاسيس لإنتاج الأغنية. والنماذج لهذا التعاون مما لا يمكن حصره، ولذلك نشأت العلاقات الهادفة وسط هؤلاء المبدعين في كل حقبة. ذلك ما يؤكد أن هذا التطور الإبداعي المهيب في هذي الأضلاع الثلاثة لم يكن ليحدث لولا ذلك التعاون الذي جرى مجراه الطبيعي. وقد وصل هذا التعاون إلى ذروته بوجود ثنائيات، وثلاثيات. وسط المبدعين أثمرت عن أجمل الأعمال التحفة. ويصح هذا التعاون المشهدي في الوسط الرياضي بين اللاعب، والمدرب، والحكم، والإعلامي، والجمهور. ومع ذلك يرى كثير من المثقفين أن هذين الوسطين يتميزان بالتدني الأخلاقي..في حين أننا لو رصدنا تاريخ العلاقة بين المثقفين، والنخب السودانية، لوجدنا أنه اعتمد على إضمار العنف، والسلاح للتخلص من زملائهم في المذهب، أو الأيديولوجيا.
-٢-
إذن فإن الوسط الغنائي، ولكونه لا يمتلك أدوات سلطة المثقفين المعتمدة على عنف الدولة، فإن العلاقة وسط أفراده – حتى في لحظات التآمر المظنون – تظل أدعى لما يشبه نذر الخلافات البينية لعلاقات الناس في أي وسط، أو ملم مجتمعي في أي بقعة في الدنيا.
من هذا الزاوية فإن ما قال به فرفور يمثل بالضبط تعبيراً عن علاقته بشريحة محددة من حيث إنه عمم المسألة برمتها على الوسط الغنائي. فربما قصد منافسيه من الفنانين أكثر من كونه قد قصد التصريح عن حال مبدعي الغناء كله، والذي يتكون من أجيال، وأجيال، وطرائق أذواق، وأخرى. فمصطلح الوسط الفني من جهة – وفرفور ضمنياً يقصد الغنائي – لا يقتصر على حدود الشعراء الغنائيين، والمطربين الجدد، والقدامى. فالمسرحيون، والتشكيليون، والأدباء، والروائيون، هم جزء من هذا المجهود الذي يعطي للفن قيمته، ووجهته، سواء في زمان النهضة، أو في زمان الانحطاط.
إننا لا نفهم تصريح فرفور ذاك – لو قرأنا راهن نفسيته – بمعزل عن ما تعرض له من اتهامات من المغني شريف الفحيل بالمساهمة في قتل زميله نادر خضر، وهو اتهام غليظ شغل رواد الميديا الحديثة طويلاً. ولا بد أن هذا الاتهام مما يترك حالة نفسية سيئة لمغنٍ يصدر أمام الجمهور عن منصة لنشر الإحساس الفني الراقي. وهو من بعد يطرح نفسه مثالياً لا بد حتى في حال انتقادنا ارتباطه بجهاز الأمن، وبعده عن الالتزام بقضايا الحرية، والديمقراطية.
فضلاً عن ذلك فإن استعار المنافسة بينه وزملائه الآخرين لا بد أنه قد استُخدمت فيها أدوات غير أخلاقية ضده أحسها بنفسه. إذ إن كل هؤلاء المتنافسين يريدون السيطرة على مشهد الغناء بصرف النظر عن القيمة الإبداعية المضافة للتطور الذي بذلته مدارس التأليف الغنائي السابقة.
كذلك لدى فرفور ما يتيح للآخرين من منافسيه النيل من قناته بوصفه كما أشرنا بأنه ضابط في جهاز الأمن الذي يعتقل الشرفاء بلا هوادة. ومعظمنا يدرك حساسية العلاقة بين جهازي أمن نميري وتنظيم الحركة الإسلامية، حيث شكل التعذيب الذي اقترفه هذا الجهاز في حق المواطنين حاجزاً نفسياً فيما يتعلق بقبول أفراد الأمن في المجتمع، ناهيك عن أن يكون فرد ما مطرباً هو جزء من منظومة أداتها تعذيب البشر. وعلاقة فرفور بالأمن هي “كعب أخيله”” إذ يُستخدم الناس انتماءه لجهازه كمنقصة، سواءً من زملائه، أو سائر المناضلين المهتمين بأمر الغناء من المنادين بالحرية، والديمقراطية. ولهذا فمن السهل أن يوظف نقد زملاء فرفور له في هذا الموضوع، ومن ثم يبق كحالة غضب تخرجه من طوره ليقول بما قال عن اتساخ الوسط الفني.
-٣-
إجمالاً يمكن تكرار التأكيد أن الوسط الفني بما فيه من غنائي، ومسرحي، يمثل درة وسط مساهمات السودانيين كل في مجاله. فالأخيار في هذا الوسط هم الكثرة الغالبة الذين ساهموا في التنوير السياسي، والاجتماعي، والثقافي، من خلال الأعمال الفنية الخالدة. وإذا كانت الظروف قد علت من الحضور الإعلامي في الميديا الحديثة، والحفلات الجماهيرية، لشريحة شبابية تشابه أعمال فرفور، وندى القلعة، وشريف الفحيل، وهدى عربي، فينبغي ألا نغمط شرائح أخرى تقدم نفسها بشكل مسؤول، ومنضبط، وطموح، يعتمد على لونيات غنائية تعبر عن حلم الطبقات الواعية في المجتمع.
جانب من تصريحات فرفور شملت أحقية اتحاد المهن الموسيقية أم جهة قضائية في التدخل في هذه المسائل المتصلة بتصريحات المغنين، وما إذا كانت الجنحة الفنية ترقى للعقاب من هذه الجهة الاعتبارية، أم تلك. وبعيداً عن رأينا حول فاعلية هاتين الجهتين في رعاية شوون الفن، والمبدعين، فإن إنزال العقوبات على المغنين أمثال فرفور تمثل قمة ما يمكن إنجازه. أما القضايا الشائكة التي تواجه تطوير الغناء مستقبلاً، والاهتمام بالمبدعين المعسرين في زمن الحرب، وكذلك دور هذه الجهات الفنية نفسها في الدعوة إلى إيقاف الحرب كمطلب لقناعات إبداعية مستنيرة، فإن كل هذا الهم يعد شيئاً محل نظر.
عموماً، حالة الوسط الغنائي في شريحته التي يمثلها فرفور، وعائشة الجبل – مثالاً – لا تعبر باللازم عن كامل حركة الشرائح الغنائية التي تمثلها تجارب حداثية أخرى. ولذلك يبقى مفهوماً أن تصريح فرفور مخصص من حيث إنه عمم هجومه. فالسياق المحيط به، وشريحته المخصصة بالأمثلة التي أوردناها يجعل من الصعوبة تصديق محتوى ما قال. فالوسط الغنائي تيارات، ومدارس، وذوائق. فيه من الفنانين الراسخين في تحقيق الإضافة الشعرية، اللحنية الغنائية، وكذلك فيه الذين تدور أعمالهم في العادي، والمكرور. أي أن الاستنساخ السيء للماضي الغنائي إبداعياً هو جوهر حراك معظم – وليس كل – أبناء الجيل الذي تربى، أو ظهر، في زمن الإنقاذ.