رحيل الأمير عبد القادر رحيل الحكمة والحكماء

رحيل الأمير عبد القادر رحيل الحكمة والحكماء
  • 30 أكتوبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د. الطيب حاج مكي

في ٢٥ أكتوبر 2025م رحل عن دنيانا الفانية إلى دار الخلود، الأمير عبد القادر منعم منصور ناظر عموم دار حمر بغرب كردفان. الكتابة عن الأمير المغفور له لا تخلو من صعوبات فضلاً عن وقع الالم والحزن على من يحبونه.
تولّى الشيخ عبد القادر منعم منصور قيادة قبيلة حَمَر في عام 1985م، خلفًا لشقيقته ناظر عموم دار حَمَر، في سياق اتسمت بخلافة عائلية سلسة الانتقال تعكس الرسوخ والحكمة مثلما تجسد الاستمرارية ومبدأ تداول القيادة داخل القبيلة. عرف الراحل المقيم منذ أن شب عن الطوق بمهارات قيادية استثنائية مكنته من مواصلة مسيرة الحكم الرشيد الذي عُرفت به الأسرة في تاريخ دار حَمَر والسودان. وقد جمع رحمه الله بين الخبرة، والمهارة العالية وسداد الرأي، وسوس الناس بالكلمة الطيبة وبالمعروف.
ولاشك أن عامة الناس فضلاً عن القادة يعرفون التعقيدات القبيلة والقيادية حين يتعلق الأمر بادارة مكونات دار حَمَر، التي يُطلق عليها أهلها “جلد النمر” لما فيها من تنوّعٍ وتعدّدٍ في الأعراق والمكونات، حتى ان دار حمر تُعد بحقّ سودانًا مصغرًا، إذ يجتمع فيها التنوع الإثني والثقافي الذي يعبّر عن هوية السودان العميقة.  ولعله من فضل الله على دار حمر ان وُجد فيهم هذا الامير الذي استطاع أن يجعل من دار حمر واحة للاستقرار والسلام رغم تنوعها وتعدد كياناتها. ولا عجب فالخبرات التراكمية في هذه النظارة تتعتق قبل قيام الدولة السودانية الحديثة، وبفضل الحكمة المتوارثة ظلت النظارة صامدةً ومتماسكة وموحدة. ورغم إمعان انقلاب مايو الذي الغى الادارة الاهلية ومرورا بمكايد حكومة الإنقاذ السابقة فى تقسيم الادارات الاهلية وتفتيت وحدتها وبمنح كل متطلع إلى الالقاب ما يبحث عنه، لكن هذه النظارة ظلت الاستثناء على القاعدة. لم تتحرش بمتحرش ولم ترد على أحد إلا اضطراراً . ويعود ذلك إلى الإرث التاريخي للاسرة ووحدة مجتمع دار حمّر وللقدرة على التكيف مع الوضع. وهو ما يميز ادوار المغفور له الشيخ عبد القادر منعم منصور بان صار احد افضل القادة الذين ينتمون إلى هذه الأسرةٍ ذات التاريخ الكبير. وتحضر هنا مواقف الأب المؤسس المكي ود إبراهيم، احد ابرز رجالات كردفان الذين خاضوا معارك الثورة المهدية بصلابة أسطورية وعبقرية حربية نادرة، بدءًا من معركة أزحف التي شارك فيها مناصراً ابناء عمومته قبائل فزارة دار حامد والكواهلة وبني جرار، مرورًا بـحصار بارا وتحريرها، ثم معركة شيكان وتحرير الأبيض، ثم الزحف ضمن مواكب التحرير إلى الخرطوم وإعلان الاستقلال الوطني الأول ٢٦يناير ١٨٨٥م.
وبذلك، فإنّ لقبيلة حَمَر وقادتها فضلٌ مشهودٌ في تاريخ السودان، مثلما للقبيلة إسهامها المعرفي والاقتصادي في تأسيس سلطنتي الفور والسلطنة الزرقاء، اضافة إلى المشاركة الفاعلة في مقاومة الحكم العثماني.
ولهذا على مدى أربعة عقود من القيادة، وظف الشرتاي ثم الناظر عبد القادر منعم منصور الحكمة والاتزان، وقدم نفسه كاحد أبرز الشخصيات التي ساهمت في حفظ السلام الأهلي في كردفان ودارفور وسائر أقاليم السودان.
لا عجب ان عُرف الراحل المقيم بين زعماء القبائل بلقب “رجل المطافي”، إذ ما أن يسمع بنزاع حتى يسارع بشد الرحال لإطفاء نيرانه وإخماد فتنه. ولانه بنواياكم ترزقون فقد طيّب الله النوايا للرجل سمح السجايا نظيف الصدر فكان يتمكن من إطفاء المنازعات بالكلمة الطيبة وبالحكمة واحيانا يتمكن من منع المشكلة قبل اشتعال نارها ، وتمددها وتفاقمها.
وتجلت هذه الادوار وامتحنت خلال فترة الاضطرابات العسكرية التي شهدتها دارفور في مطلع الألفية الثالثة، فقد حافظ الشيخ عبد القادر رحمه الله على التوازن الدقيق بين مكونات دار حَمَر، وجوارها ولم يسمح لأي تفلتات الفردية او انزلاقات جهوية أن تعبث بالسلم الاهلي أو تُقحم منطقة دار حمر في الصراعات المسلحة،  التي انتشرت في الاقليم انتشار النار في الهشيم. ما جعل امير دار حمر نموذجًا للقيادة الرشيدة التي توازن بين تحقيق السلم المحلي والمسؤولية الوطنية.
ولهذا لم تتوقف اسهامات الراحل المقيم على الساحة الاهلية اذ تعدتها إلى تقديم جهود وطنية ومصالحات سياسية. وفي الدائرة الثقافة والاهتمام بالتراث . وقد كان المغفور له مرجعا في تراث الحمر ودار حامد وكان يعرف الشعراء ويجالسهم ويجاري أشعارهم. مثلما كانت له جولات مع شعراء الحقيبة الذين كانوا يقيمون او يعملون بالأبيض. ومنهم حدباي كما ينقل فضيلي جماع، بان المغفور له وصلته مطارحه شعرية من الشاعر حدباي مع سائق لوري وهو وقتئذ شرتاي في (ام قرنا جاك). “فلم يتوان في الرد على حدباي حالاً بالاتي :
عم حدباي بجيبك مع إني لستُ بخابرْ
وتجرُبْتي القليلة أنا بيها راضِي وصابرْ
حذارِ من النّظر في كلِّ بصاً عابرْ
واجْتَرْ ذكرياتْ ماضي الحقيبهْ الغابرْ
إلى أن يقول :
ولوْ إنت أستاذ الغرامْ وشاعر الحقيبة النادرْ
وأستاذ العشقْ الدِّيمة فيهو محاضرْ
ماكْ قادرْ ترضى بالقليلْ ما قادرْ
فكيف يعملْ إبنكْ الشرتايْ عبدالقادرْ؟
ونظمه للشعر الشعبي وحفظه للتراث ما يستحيل الاحاطة به. وللشرتاي  الشيخ والناظر عبد القادر منعم منصور اتصالٍ دائم ووثيق بالقيادات الدينية والأهلية والسياسية في السودان، مما مكنه من بلورة مبادرات وطنية عديدة هدفت إلى تعزيز السلم الاجتماعي وبناء دولة عادلة في السودان
وقد ذكر في حديث مبثوث في اليوتيوب أنه كان على صلة وثيقة بالإمام الشهيد الهادي المهدي وبعد استشهاده وكانت الادارة الاهلية قد حلت وصنفت بانها عدو التقدمية وحليف الرجعية قرر ان يقيم عزاء للامام الهادي المهدي فما كان من انقلاب مايو الا أن بعث له من يعتقله. ولكنه فعل ذلك من باب للوفاء لصديق وأخ في الله كما ذكر ذلك في البث الالكتروني. وﻓﻲ السياق تاتي برز مشاركاته الوطنية في منتصف التسعينات اختلف الناس او اتفقوا، حين تبنى مبادرة للمصالحة الوطنية بقيادة الرئيس الراحل عبد الرحمن سوار الذهب، والتي دعت إلى إقامة دولة سودانية متصالحة ومتعايشة تسع الجميع ويسعد فيها الجميع وتقوم على أساس المواطنة والعدالة والمساواة والتنمية المتوازنة.
ورغم أن نظام الإنقاذ حينها لم يُبدِ تجاوباً أو استعدادًا حقيقيًا لتحقيق هذه الامنية ، إلا أن الناظر عبد القادر ركز على المقصد وظلّ متمسكًا بمبادئه الداعية إلى الوحدة الوطنية ونبذ العصبية والاقتتال.
واليوم اذ نذكر مآثره في يوم الرحيل المر نفتقده ونتشبث بإرثه ونخلد مسيرته الحافلة بالعطاء والقيادة والحكمة وسداد الرأي. واذا كان رحل بجسده فانه قد ترك وراءه إرثًا يندرج في قوله تعالى (واجعل لي لسان صدق في الاخرين) وهو لسان وسجل في الحكمة المتوارثة والاحترام والاستقرار والتعايش والتعاون وروح التسامح بين مكونات المجتمع في منطقته والسودان. ورغم رحيل الحكمة وغياب الحكماء إلا أن العشم والامل ان يبقى اسمه محفورًا في ذاكرة أبناء دار حَمَر والسودان عامة، كأميرٍ جمع بين الأصالة والاتزان، وبين الحكمة والموقف الوطني الصادق، فكان بحقّ أحد حكماء السودان الكبار الذين أسهموا في حفظ نسيجه الاجتماعي واستقراره وسلامه. رحم الله ناظر النظار الشيخ عبد القادر منعم منصور واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة واجعل البركة في عقبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*