الدكتور حسن الترابي: بين نبوغ المفكّر ودهاء السياسي… قراءة تحليلية في مسار رجل هزّ الدولة والفكر
لا تكاد توجد شخصية سودانية معاصرة أثارت جدلاً واسعاً مثل الدكتور حسن عبد الله الترابي الرجل الذي جمع بين عقل موسوعي وطموح سياسي لا حدود له وقدرة تنظيرية نادرة لكنها في كثير من الأحيان انقلبت إلى عوامل صراع وانقسام ضربت عمق الدولة السودانية.
إن دراسة الترابي ليست قراءة في شخص واحد بل قراءة في نصف قرن من تحولات السودان.
أولاً: الجذور الفكرية والتكوين العلمي:
نشأ الترابي في بيت علم وقضاء وتفتّحت مداركه مبكراً على الثقافة الدينية التقليدية قبل أن يتّسع أفقه بفضل دراسته للقانون والشريعة في جامعة الخرطوم ثم لندن فجامعة السوربون بفرنسا حيث حصل على الدكتوراه.
هذا الخليط من:
• الفقه الإسلامي
• والقانون الدستوري
• والعلوم السياسية
• واللغات الأجنبية
منحه قدرة استثنائية على تركيب الأفكار وصياغة خطاب فكري يجمع بين الأصالة والمعاصرة. لذلك برز كأحد المجددين داخل الحركة الإسلامية، مقدّماً مفاهيم جديدة مثل:
-الشورى الحرّة
-الديمقراطية الإسلامية -الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية -تجديد أصول الفقه
كان خطابه مختلفاً عن السائد، أكثر جرأة واندفاعاً ما جعله مفكراً ذا تأثير عميق داخل وخارج السودان.
ثانياً: صعوده داخل الحركة الإسلامية
مع ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تحوّل الترابي من مجرّد مفكر إلى مهندس تنظيمي، أسس حلقات الشباب الإسلامي وأعاد تشكيل الإخوان المسلمين في السودان على أسس جديدة، تقوم على:
• الانضباط التنظيمي
• اختراق الدولة
• بناء شبكة واسعة داخل الجامعات والمؤسسات.
كان يرى أن التمكين الفكري لا يكتمل إلا بالتمكين السياسي وقد قاده ذلك إلى أن يكون العقل المدبّر للعديد من التحركات التي رفعت شأن الحركة الإسلامية وصنعتها كتلة سياسية كبرى.
ثالثاً: دوره في انقلاب 1989 وتمكين السلطة
يُعد انقلاب 30 يونيو 1989 أخطر المحطات في مسار الترابي.
فقد كان بحسب أغلب الشهادات العقل الاستراتيجي الذي مهّد للانقلاب، وصاغ مشروع “الإنقاذ” ورؤيته.
بعد وصول الحركة الإسلامية إلى السلطة:
• أصبح الترابي رئيساً للبرلمان
• عرّاباً للدستور والقوانين
• قيادة ظلّ تتحكم في مفاصل الدولة.
وفي هذه الفترة تجسّد الجانب السياسي من شخصيته بأشدّ قوة:
خطط وناور ووسّع نفوذ الحركة لكنه في الوقت نفسه أرسى بنية سياسية قامت على الإقصاء والصراع والتمكين ما خلق خصومات واسعة داخل المجتمع السوداني.
رابعاً: المفاصلة الكبرى 1999… لحظة الانفجار
حدثت المفاصلة بينه وبين الرئيس عمر البشير ورفاق الأمس في واحدة من أهم لحظات السياسة السودانية.
انقسمت الحركة الإسلامية إلى:
• المؤتمر الوطني (السلطة)
• المؤتمر الشعبي (قيادة الترابي).
اختار الترابي المواجهة وأسس حزب المؤتمر الشعبي بخطاب أكثر حدّة وتحالفات جديدة مع:
• الحركات المسلحة
• والمعارضة المدنية
• وحتى مجموعات كانت خصوماً تاريخيين للحركة الإسلامية.
هذا الانشقاق كان قاصمة الظهر إذ أضعف الدولة ومزّق المنظومة التي كان الترابي نفسه قد بناها وفتح الباب لتحولات أمنيّة وسياسيّة ساهمت في تأجيج النزاعات داخل السودان.
خامساً: علاقاته الدولية وملفات شائكة
في تسعينيات القرن الماضي لعب الترابي دوراً مثيراً للجدل في السياسة الخارجية حيث فتح السودان أمام جماعات وشخصيات دولية بعضها ذو صلة بحركات مسلحة وهو ما أدى إلى:
• عزلة دولية
• عقوبات اقتصادية
• وتوسيع دائرة الصراع داخل الإقليم.
وقد كانت هذه السياسات جزءاً من مشروعه للنفوذ الدولي لكنها أثّرت سلباً على استقرار السودان ومكانته.
سادساً: قراءة نقدية… أين انهزم الترابي؟
كان الترابي يمتلك عقلاً فكرياً لامعاً لكنه في السياسة كان كثيراً ما يقدّم:
الدهاء على الحكمة والصراع على الإصلاح والتنظيم على الدولة.
لقد وقع في فخّ صنعته يداه:
• بنى منظومة التمكين ثم انقلبت عليه.
• جمع السلطة بيد الحركة ثم مزّق الحركة نفسها.
• أراد مشروعاً إسلامياً كبيراً فانتهى المشروع إلى حروب وانشقاقات.
كان يمكن أن يكون الترابي مجدداً إصلاحياً لو اكتفى بالفكر لكنه اختار ميداناً لا يحكمه المنطق بل القوة.
الخاتمة:
إرث معقّد لا يمكن تجاهله
يخرج الترابي من التاريخ بشخصية مزدوجة:
إرث فكري ضخم:
كتب ونظّر وجادل وفتح باب التجديد وأثّر في حركات إسلامية عديدة.
وإرث سياسي ثقيل:
انقلابات، صراعات، تحالفات متغيرة، وتمزق داخلي ساهم في صناعة الحروب وتمديد عمرها.
يبقى السؤال مفتوحاً:
هل كان الترابي عبقرياً أفسدته السياسة؟
أم سياسياً استخدم عبقريته لإعادة تشكيل السودان وفق رؤيته الخاصة؟


