من “أبو حمد” إلى “هنا لندن”.. أيوب صديق.. الرجل الذي أورثني أبي محبته
★لم يخطر لي على بال وأنا أجلس إلى جوار والدي في المساء وهو يحرّك مؤشر الراديو لضبطه على موجة إذاعة لندن، أن أكون صديقا وزميلا في مكان واحد مع ذلك الصوت المثقف الجميل المنبعث من ذلك الصندوق وهو يقطع المسافات الطويلة عابرا للحدود ليشق صمت قريتنا ود الحبشي ويسري في أوصالها دفئا ودهشة.
★“هنا لندن”… مع مدٍّ مطول وآسر لكلمة (هنا)، كان الإذاعي الكبير أيوب صديق أطال الله عمره يستهل نشرات الأخبار، فيطوف بنا بصوته الندي أرجاء العالم كأنه يعزف لحنا موسيقيا رفيعا. كنت أشعر بزهو وسعادة تفيض في دواخلي، ووالدي يصغي بوقار ويسألني عن معنى عبارة “الجدير بالذكر” فأدرك حينها أن الصوت الجميل يصنع وعيا ويجذب الانتباه.
★أيوب صديق، القادم من منطقة العبيداب جنوب مدينة أبو حمد، صاحب صوت استثنائي يفرض عليك الإنصات بإجلال، لأنه يشبه جريان النيل، هادئا في مظهره عميقا في أثره. إذا قرأتَ منتوجه الشعري تحسب أنك في عصر الشعر الباذخ، وإذا حدّثك في اللغة والأدب والإعلام والفقه وشؤون الحياة وتجاربها، وجدت نفسك أمام عالم واسع الأفق والفهم.
★مسيرة إعلامية امتدت لعقود، جعلت من الهرم الإعلامي الكبير أيوب صديق مفخرة ورمزا ومرجعا. بدأ رحلته المميزة من إذاعة أم درمان وتلفزيون السودان، ثم صوت أمريكا، فـإذاعة لندن وتلفزيون أبو ظبي، ثم قناة الجزيرة. وإلى جانب ذلك، فهو كاتب ناصع العبارة، جميل المفردة.
★“الأستاذ” كما يحلو لنا أن نناديه، مثالٌ للأخلاق الرفيعة والتواضع الجم؛ يخاطبك بلطف محبب، ويناديك بنبرة أخوية صادقة. دماثة خلقه سبقت اسمه، وفرضت على الجميع محبته واحترامه.
★ولم يقف عطاء أيوب صديق عند العمل الإذاعي والتلفزيوني، بل مضى إلى الوجدان ليدهنه بمراهم السعادة، شاعرا غنائيا رقيقا، تنثال كلماته عذوبة. وعندما تستمع إلى الفنان الكبير عبد العزيز محمد داود وهو يأخذ بأنفاسك في أغنية “يا حبيبا قد تناسى”، فاعلم أن أيوب هو من صاغ تلك الكلمات الجميلة وغيرها من درر الغناء في بواكير شبابه:
★يا حبيبا قد تناسى بعدما كان وفيّا
يا نديما ترك الكأس حطاما في يديا
أنا من بعدك وحدي أذرف الدمع سخيّا
في ظلام ليس يمحوه سوى نور المحيّا
ذاكرا يا هاجري عهدا قطعناه سويّا
وليالٍ قد طواها الدهر كاللمحة طيّا
★أستاذنا الجليل أيوب صديق … عطاءٌ متميّز ومسيرةٌ عامرة بالإبداع تستحق منا كل ثناء وحب وتقدير. متعه الله بالصحة والعافية، وأطال في عمره ليبقى صوته نبراسا وذاكرة للأجيال.


