البحر الأحمر حين يشتعل الصمت
في هذا البحر الذي يبدو للعين صفحة ماء هادئة تتعانق فيها زرقة السماء بزرقة الموج تختبئ أعقد معادلات الجغرافيا السياسية وأشدها توتراً وأكثرها تأثيراً في مصائر الدول والشعوب. البحر الأحمر ليس مجرد مسطح مائي يفصل بين ضفتي آسيا وأفريقيا بل هو شريان حياة وساحة صراع وممر قلق تتقاطع فوقه أطماع الإمبراطوريات القديمة والجديدة وتتشابك عند ضفافه حسابات الأمن والسيادة والتنمية. من مضيق باب المندب حيث تضيق الجغرافيا وتتسع السياسة إلى قناة السويس حيث يمر نبض التجارة العالمية يتجسد البحر الأحمر بوصفه اختباراً دائماً لقدرة الدول على حماية أمنها وصيانة مصالحها في عالم لا يرحم الضعفاء ولا ينتظر المترددين.
وحين نتأمل هذا البحر بعين التاريخ ندرك أن من يملك مفاتيحه يملك قدراً من التحكم في حركة العالم. فقد كان منذ فجر الحضارات ممراً للقوافل وسفن التوابل والبخور ثم صار لاحقاً معبراً للنفط والغاز والبضائع الثقيلة والأحلام الكبيرة. اليوم تمر عبره نسبة معتبرة من تجارة العالم وتتحرك فوق مياهه سفن تحمل اقتصاد الكوكب على ظهورها كما تحمل في بطونها احتمالات الخطر والتهديد. لذلك لم يكن غريباً أن يتحول أمن البحر الأحمر إلى قضية دولية بامتياز وأن يصبح استقراره أو اضطرابه عاملاً مباشراً في أسعار الطاقة وسلاسل الإمداد وحتى في حسابات الحرب والسلم.
الأمن في البحر الأحمر ليس مفهوماً بسيطاً يمكن اختزاله في وجود بوارج أو دوريات بحرية بل هو منظومة متشابكة تتداخل فيها الجغرافيا مع السياسة والاقتصاد مع الاجتماع والأمن الصلب مع الأمن الناعم. هنا تتلاقى القرصنة بالإرهاب ويتقاطع تهريب البشر مع تهريب السلاح وتتماس خطوط الملاحة التجارية مع خطوط الصراع الإقليمي والدولي. كل خلل صغير في هذا التوازن الدقيق يمكن أن يتحول إلى كرة نار تتدحرج سريعاً فتشعل سواحل بعيدة وتربك عواصم كبرى. وكما قلت مراراً إذا عطس البحر الأحمر أصيب الاقتصاد العالمي بالزكام.
السودان يقف على هذه الصفحة المائية وقوف التاريخ على مفترق الطرق. بساحل طويل وموقع فريد يطل على واحد من أكثر البحار حساسية يمتلك السودان فرصة كبرى كما يواجه تحدياً أكبر. فمن جهة يمنحه البحر الأحمر عمقاً استراتيجياً وإمكانات اقتصادية هائلة ومن جهة أخرى يضعه في قلب معادلات أمنية معقدة تتطلب دولة مستقرة ورؤية واضحة وإدارة رشيدة ، وبورتسودان ليست مجرد ميناء بل هي بوابة السودان إلى العالم ومرآته التي يطل بها على حركة التجارة الدولية. وكل اضطراب داخلي ينعكس عليها وكل ضعف في الدولة يتسرب عبرها. فالأمن البحري لا ينفصل عن الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخل البلاد بل هو امتداد له وانعكاس مباشر لحال الدولة نفسها.
الحرب التي أنهكت السودان وأضعفت مؤسساته لم تبق آثارها داخل الحدود البرية فقط بل ألقت بظلالها الثقيلة على الساحل والميناء وحركة التجارة والأمن البحري. فالفراغات الأمنية هي التربة الخصبة لكل أشكال الجريمة المنظمة من تهريب البشر إلى تهريب السلاح ومن تجارة المخدرات إلى شبكات الهجرة غير الشرعية. والبحر الأحمر لا يحتمل فراغاً ولا يغفر الإهمال. من هنا يصبح استقرار السودان شرطاً أساسياً ليس لأمنه الوطني وحده بل لأمن البحر الأحمر بأكمله. فالساحل السوداني حين يضعف لا يضعف وحده بل يهتز معه ميزان الأمن الإقليمي.
أما المملكة العربية السعودية فتدرك بحكم موقعها وثقلها أن البحر الأحمر ليس خطاً خلفياً في أمنها القومي بل هو أحد أعمدته الرئيسية. فمن سواحل تبوك شمالاً إلى جازان جنوباً يمتد شريط ساحلي طويل يجاور أحد أهم الممرات البحرية في العالم. ولذلك بنت المملكة استراتيجيتها البحرية على أساس الحماية الاستباقية وتأمين خطوط الملاحة وتطوير قدراتها البحرية بما ينسجم مع رؤيتها الشاملة للتنمية والاستقرار. البحر الأحمر في الرؤية السعودية ليس فقط ممراً تجارياً بل فضاء تنموياً وسياحياً واستثمارياً وركيزة لمشاريع كبرى تجعل من الاستقرار شرطاً لازماً للازدهار.
وقد أدركت السعودية مبكراً أن أمن البحر الأحمر لا يمكن أن يكون مسؤولية دولة واحدة مهما بلغت قوتها بل هو مسؤولية جماعية تتطلب تنسيقاً إقليمياً وشراكات دولية. لذلك شاركت في مبادرات أمنية متعددة وأسهمت في حماية الملاحة الدولية وعملت على بناء أطر تعاون مع الدول المشاطئة إدراكاً منها بأن الأمن إذا لم يكن مشتركاً كان هشاً وإذا لم يكن متوازناً كان قابلاً للانفجار. وهنا يتجلى معنى الأمن الجماعي في أبهى صوره حيث تتقاطع المصالح وتتلاقى الضرورات.
إريتريا من جهتها تمسك بجزء حساس من هذه الجغرافيا عند مدخل باب المندب حيث يضيق البحر وتتكدس السفن وتتضاعف المخاطر. موقعها يمنحها وزناً استراتيجياً يتجاوز حجمها الاقتصادي والسياسي. فهي تطل على عنق الزجاجة الذي تمر منه التجارة العالمية وتجاور مسرحاً دائماً للتوترات الإقليمية. وقد جعلها ذلك محط أنظار القوى الدولية والإقليمية وساحة لحسابات دقيقة بين التعاون والحذر. دور إريتريا في أمن البحر الأحمر يمكن أن يكون إيجابياً داعماً للاستقرار كما يمكن أن يتحول في حال سوء التقدير إلى عنصر إرباك إضافي. ومن هنا تبرز أهمية دمجها في أطر تعاون إقليمي حقيقية يقوم على المصالح المشتركة لا على الصفقات المؤقتة.
العلاقة بين السودان والسعودية وإريتريا في سياق البحر الأحمر ليست ترفاً دبلوماسياً بل ضرورة استراتيجية. فالدول الثلاث تشترك في التحديات كما تشترك في الفرص. الهجرة غير النظامية لا تعرف حدوداً والقرصنة لا تفرق بين علم وآخر والتهديدات الأمنية تعبر المياه أسرع مما تعبر الاتفاقيات الورق. لذلك فإن أي مقاربة جادة لأمن البحر الأحمر لا بد أن تقوم على التنسيق الثلاثي وتبادل المعلومات وبناء القدرات المشتركة وتوحيد الرؤى تجاه المخاطر. الأمن هنا مثل السلسلة إذا انكسرت حلقة واحدة انهارت كلها.
والاقتصاد في هذا البحر هو الوجه الآخر للأمن بل هو توأمه الذي لا ينفصل عنه. فحيثما استقرت الملاحة ازدهرت التجارة وحيثما ازدهرت التجارة تنفست الشعوب. الموانئ ليست مجرد أرصفة بل عقد في شبكة الاقتصاد العالمي وكل تطوير فيها هو استثمار في الاستقرار. السودان بما يملكه من موارد وموقع يمكن أن يتحول إلى عقدة لوجستية إقليمية إذا ما توفرت له بيئة سياسية مستقرة ورؤية اقتصادية واضحة. والسعودية تمضي بخطى واثقة لتحويل سواحلها إلى مراكز جذب عالمي للسياحة والاستثمار. وإريتريا تستطيع أن تستفيد من موقعها لتعزيز اقتصادها إذا ما اندمجت بفاعلية في مشاريع إقليمية مشتركة.
غير أن هذا المشهد لا يخلو من التحديات المستقبلية التي تتسلل بصمت كما يتسلل المد في الليل. التغير المناخي يهدد السواحل والبنى التحتية وارتفاع درجات الحرارة يؤثر على البيئة البحرية والموارد السمكية. التكنولوجيا من جهة تفتح آفاقاً جديدة للمراقبة والحماية ومن جهة أخرى تخلق تهديدات سيبرانية تستهدف الموانئ وأنظمة الملاحة. الصراعات الإقليمية القريبة والبعيدة تلقي بظلالها الثقيلة على هذا البحر وتجعل أي حادث صغير قابلاً للتحول إلى أزمة كبرى. وفي عالم يتغير بسرعة تصبح القدرة على التكيف شرطاً للبقاء.
في خضم كل ذلك يبقى السؤال الجوهري مطروحاً كيف نحول البحر الأحمر من ساحة توتر إلى فضاء تعاون ومن مصدر قلق إلى رافعة استقرار. الجواب لا يكمن في السفن الحربية وحدها ولا في الاتفاقيات وحدها بل في بناء منظومة متكاملة تقوم على الدولة القوية والتعاون الإقليمي الصادق والتنمية المستدامة. وكما قال الحكماء إن الأمن لا يُشترى بالسلاح وحده بل يُصنع بالعدل والتنمية والحكمة. فحيثما شعر الناس بالأمل تراجعت أسباب الفوضى وحيثما سادت الحكمة انحسرت نيران الصراع.
إن أمن البحر الأحمر مرآة تعكس حال الدول المشاطئة له فإذا صلحت صلح وإذا فسد فسد. وهو اختبار حقيقي لقدرتنا على التفكير المشترك في زمن الانقسامات وعلى تحويل الجغرافيا من لعنة إلى نعمة ومن ساحة صراع إلى جسر تواصل. السودان والسعودية وإريتريا يقفون اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة إما أن يستثمروا هذا البحر كمساحة تعاون ومصالح مشتركة أو يتركوه رهينة للتجاذبات والفراغات. وفي النهاية يبقى البحر الأحمر كما كان دائماً شاهداً صامتاً على خيارات البشر فمن أحسن الاختيار حمله إلى بر الأمان ومن أساءه ابتلعه الموج بلا رحمة.
Email
tahtadoun@gmail.com


