“موكب الحروب والانتهاكات” وعي متقدم.. النوبيون مثالاً

“موكب الحروب والانتهاكات” وعي متقدم.. النوبيون مثالاً
  • 14 فبراير 2019
  • لا توجد تعليقات

د.حسين حسن حسين

ها هو شباب الوطن ينتفض في حراك ثوري أذهل العالم، وها هو اليوم يخرج في موكب ضحايا الحروب والانتهاكات” في إطار سلسلة من المواكب التي جعلتنا نردد قول الشاعر: “مواكب ما بتتراجع تاني.. اقيف قدامها واقول للدنيا انا سوداني”، وهذا الموكب تحديداً له مغزاه ومعناه العميقان، فقد ظلت كل منطقة من مناطق السودان تدافع عن قضاياها وهمومها بمعزل عن قضايا المناطق الأخرى وهمومها، ولكننا اليوم نلتقي سوياً في ساحة الوطن الفسيح بإيمان راسخ، بأن ما يصيب أي منطقة من شرور، فهو يصيب الوطن، ويأتي خصماً عليه.

وهذه الروح الوطنية التي توحد همومنا، هي نفسها التي ستوحد جهودنا من أجل إيجاد الحلول الناجعة لكل مشكلاتنا، وقضايانا، لبناء مستقبل أجمل وأنقى لأجيالنا المقبلة، حتى تظل تحمل راية واحدة: “حرية.. سلام.. عدالة”، والثورة خيار الشعب ضد أي ظالم اليوم وفي المستقبل.

وفي ظل هذه الروح الوطنية دعوني أثير قضيتين ملتهبتين في المنطقة النوبية، وهما قضية السدود، وقضية التلوث البيئي الناتج من التعدين العشوائي، إذ لم يكتف نظام الإنقاذ بمحاولة الإغراق، وإنما عمد إلى تلويث بيئة المنطقة من خلال السيانيد ومصانعه التي يصر على أن تكون في قلب القرى النوبية، دون أدنى اهتمام بإنسان المنطقة الذي يتأثر سلباً، ويحمل جسده المنهوك أصلاً مزيداً من الأدواء والأمراض، لنفقد أرواحاً غالية، هي أثمن ما نملك.

وقد تمادى الإنقاذ واستخدم الرصاص الحي وزهق أرواح شباب أبرياء، كل ذنبهم أنهم طالبوا بحقهم، وحق أهلهم في الحياة الكريمة، ومضى شهداء كجبار إلى بارئهم، وقد كتبوا صحائف سوداء في كتاب هذا النظام الذي لم يذق أهل السودان قاطبة إلا الذلة والمهانة.

وعلى الرغم من هذه الرؤية السوداوية التي يحاول الإنقاذ أن يلف بها حياتنا، حيث الخوف من المجهول، وتوقع الغدر الذي اعتاده النظام، فإن لي منظوري المختلف لما يجري حالياً على أرض النوبة من مظاهر المناهضة للسدود والسيانيد في المنطقة، فأنا أرى أن نظام الإنقاذ أفادنا من حيث لا يحتسب، فقد هيأ الإنسان النوبي ليكون في قلب الثورة التي نشهدها اليوم، ولم يكن مفاجئاً أن يكون شاب مثل محمد مصري ابن عمارة (محلية عبري) في مقدمة ضحايا الثورة؛ لأنه وأمثاله من الشباب عايشوا من قرب الاستعلاء الذي يمارسه منسوبو النظام، ومحاولتهم سرقة المستقبل منهم.

محمد مصري محمولاً على الأكتاف في عبري

وقد جمع هذا النظام بغطرسته الشتات النوبي الواسع في قارات العالم على قلب قضية واحدة، وجعل النوبيين في الداخل والخارج يتواصلون، ويتفاعلون عن قرب، حتى تلاشت المسافات، وتكسرت الحدود الفاصلة بينهم، وأصبحوا ينامون ويصحون على هدف واحد، وهو دحر ظلم المتربصين، والحفاظ على أرض جدودهم، بكل ما فيها من ثروات حضارية وطبيعية.

وعرّفت القضية أطفال النوبة وشبابها بأرضهم وإرثهم، ومنهم من لم يعر اهتماماً من قبل لانتمائه، ولا يعرف شيئاً عن عظمة حضارته، فأخذوا يتساءلون: لماذا هذه الحماسة من آبائنا وأمهاتهم من أجل أرض لم يطأها كثيرون منهم منذ سنوات بعيدة، ومنهم من (جوجل) عن النوبة -أي بحث في جوجل-، ونقب عنها، ليعرف سر هذا الاهتمام بها، ومنهم من كان لديه قليل من المعلومات، فاستزاد، ومنهم من أصبح مصدراً للمعلومات لغيره، لكثرة ما اهتم وقرأ.

لقد أوجدت المناهضة حالة جديدة للإنسان النوبي بفعل فطرة الحفاظ على النوع والإرث والتاريخ، التي تعتري كل من يتهدده الفناء، وأصبح النوبيون في كل بقاع الأرض أكثر قرباً من بعضهم من أي وقت مضى، ولعل مرارة فقدان حلفا التي لا تزال غصة في حلق كل نوبي من أسباب هذا التدافع لمنع تكرار الماسأة.

وإذا كانت القيادة دائماً تمثل مشكلة، ومصدر قلق لكل الذين يتصدون لأي قضية عامة، فإن أزمة السدود وقضيتا السيانيد والتنقيب العشوائي عن الذهب ونفائس أرضنا أفرزتا قيادات من مختلف الأعمار، فكبار السن الذين كانت تمضي حياتهم برتابة تمردوا على ركام العمر، وأزاحوها، واستعادوا كثيراً من حيوية الشباب، وتصدوا للقضية، وتصدروا المشهد، والشباب الذي كان الظن أن لا اهتمام لهم إلا تزجية الوقت، والتلهي بمباهج الحياة أظهروا أنهم على قدر المسؤولية، وأنهم أمل لا ينقطع، فقادوا العمل أحسن ما تكون القيادة، وكلما طالت يد البطش بعضهم، ظهر آخرون من لم يحسب لهم الباطشون حساباً، لتؤكد النوبة أنها ولادة.

وتصدرت المرأة النوبية المشهد كعادتها، فأشعلت الحماسة في النفوس من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي أجادت في توظيفها، وأصبحت رسائل النساء النوبيات البسيطات مادة تتداولها الأسر، وهن يتحدثن ببساطتهن عن الأرض وإنسانها، وإرثه، وذلك بلسان نوبي مبين، لتصل المعاني إلى الجميع بلا استثناء، حتى لأولئك الذين لا يعرفون كلمة من النوبية.

وذكر لي بعض الذين شهدوا هبات أهل سكوت في عبري أن النساء أتين إلى المظاهرات من غير دعوة، وارتفعت أصواتهن بالاعتراض على تغييبهن، وأتت المظاهرات في المحس لتفادي هذا التغييب، لتقود المرأة المظاهرات بكل قوة وجرأة، جبلت عليهما على مدى التاريخ الحديث والقديم.

وأجبر النوبيون القوى السياسية التي استكانت ورضت بالرضوخ للنظام كثيراً على أن ترفع صوتها بعد طول صمت، وأن توضح موقفها من قضية تعدّ وطنية في المقام الأول، وليست جهوية ضيقة، ولعل إيقاظ النوبيين لها يكون له ما بعده.

وهذه الروح التي بثها جور النظام في مناطق السودان المختلفة تراكمت حتى أنتجت هذه الثورة التي يقودها شباب واعٍ أراد أن يسدل ستار الظلم، ليقلب صفحة جديدة في مسيرة الوطن.أما عن السدود، فقدت كنت واثقاً أنها لن تكون إلا في مخيلة الواهمين، الذين ستزلزل الجموع النوبية الأرض من تحت أقدامهم، واليوم ازددت ثقة أن ليل الظلم قارب على الانجلاء في كل السودان.

ولهذا أرى أن أكبر استثمار لهذه القضية أن نستغل ما تولد عنها من طاقات في تحويل مسار الحياة الرتيبة في منطقتنا إلى مسار جديد مفعم بالحيوية، بتغيير نمط المعيشة، واستغلال الخيرات، وإقامة المشروعات، وإعادة الإنسان إلى بيئته؛ ليعيش بين أحضانها، مستمتعاً بكل ما فيها من نعمة وسحر وجمال.

هذا الذي أعبر عنه ليس أمنيات بعيدة المنال، ولكنه أحلام يمكن أن تكون واقعاً يمشي، وخصوصاً أن المناهضة أنعشت الأمل، وزادت حجم الطموح، وجعلت ما كان محالاً ممكناً، فإذا كنا قد تواصلنا بامتدادتنا في قارات العالم من أجل قضيتنا، فإن التواصل يمكن أن يستمر من أجل أن نقدم جزءاً ولو يسيراً مما يستحقه الإنسان القابض على الجمر هناك، الذي لم يغادر أرضه ضارباً بكل المغريات عرض الحائط، والذي يواجه اليوم النظام بيقين ثابت وجرأة مدهشة.

وختاماً اشير إلى أن هذا المقال الذي كتبته منذ نحو عامين وأضفت إليه ما اقتضاه الحال اليوم يبين أن الرهان على الشباب الذي بشرت به تؤكده ثورتهم المباركة، وأن اختيار تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير شعار “موكب الحروب والانتهاكات” دليل وعي متقدم، وهو يثبت أننا جميعاً في الهم سودانيون يهمنا مصير هذا الوطن، ويشغلنا أي هم يعتري أي منطقة في أرض الوطن.

وقد كان من الجميل أن يترجم شبابنا شعار “تسقط بس” إلى اللغة النوبية، وأن يبدع لوحات للمشاركة في هذا الموكب الوطني بروح جمعية سودانية، تجعل كل سوداني يتداعي بالثورة و”الفزعة” لكل صاحب مظلمة بغض النظر عن أي انتماء ضيق.

(ند منقر) ترجمة نوبية لشعار “تسط بس”

وأشير إلى أن وحدة السدود التي تأسست في 2005م بمرسوم رئاسي تعدّ نموذجاً للفساد الذي مارسه النظام على أعلى مستوى، وملفها من أهم ملفات الفساد التي يجب البدء بها بإذن الله في محاكمة النظام ورموزه.

وأختم بالقول: دعوا التنوع نعمة أيها الشباب الناهض، واجعلوه أساسنا لبناء مستقبل زاهٍ لوطن يسع الجميع، وليكن شعارنا “الوحدة في التنوع”.

التعليقات مغلقة.