حورة .. رحيل أم

حورة .. رحيل أم
  • 23 مايو 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

عندما شببت عن الطوق ووعيت وجدت والدي وعمي جمال يزرعان بالساقية في آخر عهدها وكانت حورة وأمي تساعدان وتتوليان معا إعداد الطعام في راكوبة مشتركة في جزيرة أورجو قبالة دلقو. أما دوري فقد كان وضعي طفلا على تكم الساقية الذي يجره ثوران دائريا ساعات طويلة حتى إني قلت ذات مرة متبرما:
إن شاء الله ساقية أبوي وعمي تتدشدش.
ولما قبلت بالمدرسة كان مشروع دلقو الزراعي الكبير التشاركي قد شغل بماكينة بريطانية قوية تعمل بالديزل فتوقف أنين السواقي.
عندما عادت أسرنا للقرية ظلت الحياة متكاتفة فكثيرا ما تتشارك العائلة الكبيرة في حلة واحدة وصحن يسع الأيدي كلها.
كانت النفوس صافية والمتطلبات بسيطة والتساند سيد الموقف.
وحدث أن أصابتني حمى التايفود بينما أنهيت الأولية وأقبلت على الوسطى ولم يجد مساعد طبي شفخانة دلقو وقتها علاجا ناجعا فحولني لمستشفى وادي حلفا وهي تتهيأ للتهجير متهيبة حيث حملتني سيارة إسعاف وزميلي بالمرض نفسه إبراهيم سري.

وفي خضم الاستعدادات تولت أمي الثانية حورة جمع ملابسي القليلة وغسلها بعد جر ماء البئر النقي. وكان عمي فتحي عباس قد حفر لحلتنا وقتها البئر الأولى التي أفادت كثيرا خلال كدر ماء الدميرة في سقيا الناس والبهم.
هكذا مضت حياتنا وحورة جزء مني لصيق بلطفها ومرحها وكرمها فحين يغتم علينا أمر ويشتجر نسعى إليها فتمسح عنا الضيق سريعا بضحكاتها وملاطفاتها بينما تقدم لنا طبق العجوة’ التي اشتهرت بإعدادها حوليا وقد كانت صنوف التمر عندها متوافرة فعمي جمال كان من أنشط الناس في غرس النخل فصار صاحب النصيب الأعلى فيه.

عرف بيت عمي جمال وأمي حورة باستقبال الضيوف فسقيفتهما أمام البيت التي تساندها ظلال أشجار النيم مابرحت تحضن ناس البلد والأغراب حتى باتت مقصدا للعابرين كقوافل العرب والحلب.
والكريم لا يضام فرغم الصرف المفتوح زاول عمي التجارة وفتح دكانا ولم تمر على ذلك البيت المعمور ضائقة مالية قط رغم تربية الأولاد والبنات والحفدة على مر السنين وكر الظروف.

لقد كانت حورة حورية حلتنا فقد كانت بهية للناظرين’ راوية للسامعين لا تقول إلا ما يسعد الناس’ ومن مناقبها أنها كانت تنظر لأبناء العائلة الكبيرة نظرتها لأولادها تماما دون تمييز في شمول وحنو.
درجت على النزول عند عمي جمال مرات عدة فهو عميد أسرتنا وولي أمرنا وطوال تلك المراحل كنت أسعد بأطيب زوجين وأكرم رفيقين.
كنت تواقا لزيارتهما ووداعهما قبيل سفري الحالي لكن الحجز المباغت العجل حال دون بغيتي.
وصلت آخر الدنيا ظهر أمس بعد سفر طويل وشاءت إرادة الله أن يصفعني خبر وفاة أمي لتنساب الدمعات وتتصل الآهات.
إن رحيل أمي حورة زلزال في دواخلي بل سيخلف في جدار مجتمعنا بأسره ثغرة غائرة من المستحيل سدها.

أمي وصفيتي الحبيبة

لمن تتركينا وراءك في أعاصير الحياة؟

وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

ستظل روحك هادية لدربي وذكراك قبسا في مساري.
ما أقسى انشطار جزء من كيان الإنسان.
ما أفدحه!

أنور محمدين
ولاية واشنطن

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.