الروائى طارق الطيب (للتحرير): المهجر لم يسرق مني الوطن بل قدم لي ما لم أجده بوطني

الروائى طارق  الطيب (للتحرير): المهجر لم يسرق مني الوطن بل قدم لي ما لم أجده بوطني
  • 07 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

الخرطوم –التحرير –محمد اسماعيل

عشت في مصر وكانت البيئة السودانية حاضرة بعاداتها وتقاليدها

أستقي شخوصي ببساطة من بيئتي وحياتي ولا أستخرجها من بئر

بدأت بارتكاب الفعل الثلاثي (شعر وقصة ورواية) في الوقت نفسه تقريباً

حزين لأن الملحقيات الثقافية العربية لا تجيد التواصل مع الأدباء والفنانين الكبار بالنمسا

الجوائز بالوطن العربي جلبت كثيراً من الضغينة والكراهية بين الأدباء

طارق الطيب مع المحرر

طارق الطيّب هو روائي وقاص وشاعر ورسام مصري سوداني، من مواليد القاهرة باب الشعرية عام 1959. من أب سوداني من مدينة كوستي هو الطيب محمد أحمد محمود …. انتقل في عام 1984م إلى فيينـَّا حيث أنهى دراسته في فلسفة الاقتصاد، وهو يعيش الآن فيها، ويعمل إلى جانب الكتابة الأدبية بالتدريس في ثلاث جامعات بها.

شارك في كثير من المهرجانات الأدبية العالمية في أكثر من 35 دولة حول العالم. حصل على منح كبرى والجوائز.. شارك محكماً للرواية في جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي في عامى (2019-2020م).

وصدر تله في السنوات الأخيرة: (وأطوف عارياً)، القاهرة 2018، و(نهارات فيينا) القاهرة، 2016، و(الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا) القاهرة 2014، و(محطات من السيرة الذاتية) القاهرة 2012، و (… ليس إثماً) القاهرة 2011، و بعنا الأرض وفرحنا بالغبار) بيروت 2010.

وتلمس موضوعات رواياته في الغالب إشكاليات المِهجر والتباين الثقافي والاجتماعي والهُوية.. التقيته فى الخرطوم من خلال جائزة الطيب صالح للابداع الكتابى التي شارك فى لجان تحكيمها هذا العام.

تعني في أعمالك بإشكالية المهجر هل تجد المهجر إضافة أم انتقاصاً؟

موضوع المهجر والإقامة في مكان جديد بعيد، كذلك كمشاعر واضطرابات الاغتراب في العصر الحديث تدخل في كتاباتي بشكل طبيعي وضروري، والاغتراب في الوجود في الغرب وفي الدول غير الناطقة باللغة العربية له تداعيات كثيرة مختلفة.

الاختلاف العقائدي يظهر في الهامش بشكل غير مرئي لكنه يشكل إطارات أيديولوجية تتداخل وتتضارب وتتعارض وقلما تتلاقى. الاغتراب ليس إضافة أو انتقاصا في عمقه، فهو حالة إما حدثت طوعاً أو إجباراً، فيها من المكاسب ومن المخاسر، وفيها من التأمل ومن المعاناة ومن النجاة، وفيها أكثر من اللا استقرار الذي يهدد من يقفون عند الحافة ولا يعرفون هل يعودون أدراجهم أم يستكملون النأي.

أحب أن أكتب عن هذه الحدود النفسية الحرجة المؤثرة في علاقات كثيرة تلقي بحمولتها على الأوضاع الاجتماعية لجماعات وأفراد، هذه الموضوعات جديرة بالتأمل والتفكير والكتابة.


هل البيئة السودانية حاضرة في أعمالك؟ برغم نشأتك في مصر وحياتك الطويلة في النمسا؟

البيئة السودانية كانت ملازمة وحاضرة لي منذ المولد وسط جالية سودانية كبيرة عاشت في مصر لأجيال قبل مولدي، نقلَتْ مقطعاً مصغراً للسودان داخل مص، بكل عاداته وتقاليده ولهجته وثقافته الخاصة، وامتزجت بالمجتمع المصري المفتوح والمرحب وتصاهرت الثقافات فلم تصبها العزلة.

في هذه الأجواء الصحية نشأتُ وعشتُ وتأثر لساني بلسان البيئة مثلما يتأثر كل طفل في أي مكان يعيش فيه في العالم الواسع. الطفل أكثر ذكاء واستجابة وتسامحاً في تقبل الكثير، على عكس البعض المتزمت الذي يتوقع مثلا أن التطبع بلسان المكان هو خيانة أو ضياع هوية.

البيئة السودانية حاضرة بوضوح منذ أول رواية (مدن بلا نخيل) مكتوبة في فيينا ١٩٨٨م، ونشرت ثلاث مرات بالعربية أولها عام ١٩٩٢ في ألمانيا بالعربية، وتُرجمت للإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية. كذلك يظل حمزة السوداني هو بطل رواية (بيت النخيل) الرواية التي تلتها والتي تدور أحداثها في السودان ومصر وفيينا، كذلك الكثير من قصصي القصيرة التي تجاوزت الخمسين قصة فيها كثير من ملامح وأجواء السودان.

من أين تستقي عوالم شخوصك؟

أستقي شخوصي ببساطة من بيئتي وحياتي، ومن سلسلة تأملات وخبرات تفتح عوالم بعيدة للخلق الفني والأدبي. ليست هناك بئرا معينة أستخرج منها شخوصا للكتابة، وإنما تأتي الأمور بسلاسة وانسياب ويسر.

هناك شخوص تأتي شبه مكتملة وهناك شخوص تأتي بملامح خافتة ثم تتطور وتطور نفسها وتشارك في كتابة الأحداث وتثريها.

عرفك القراء شاعراً وقاصاً ثم تحولت إلى عالم الرواية، كيف تم هذا الانتقال؟

هذا غير صحيح لقد بدأت تقريباً في ارتكاب هذا الفعل الثلاثي من شعر وقصة ورواية في الوقت نفسه تقريباً، ولم انتقل من عالم لآخر، كتبت روايتي الأولى كما ذكرت سابقا في عام 1988أي قبل 32 عاماً من اليوم، في الوقت نفسه كنت أكتب القصة والشعر.

الفروق عندي ليست واسعة كما يراها البعض، ولست ضد أن يكتب أحد في فرع بعينه لا يغادره، ولست ضد التنوع الأدبي. المهم أن يكون العمل مقبولاً من القارئ ومنسوجاً برغبة حقيقية من الكاتب.


هل الرواية حلت مكان الشعر في العالم العربي؟

أظن أن محاولات المحو هذه تبدو خاطئة من وجهة نظري. فالقمة تتسع للشعر وللنثر، الواضح أن الاهتمام بالرواية في السنوات الأخيرة له أسبابه، ولعل الجوائز الممنوحة للرواية في الحقبة الأخيرة قد ألقت أضواء على عالم الرواية وكتّابها، كما أنها الأقرب للتحول لعالم السينما أو الدراما التلفزيونية اللذان يتمتعان بجماهيرية عريضة.

لكن الشعر سيبقى دائماً لأنه وجدان الشعوب وشعلتها. المكافأة المادية هي التي رفعت أسهم هذا النوع الأدبي أكثر، أقصد الرواية، ووضعته في بؤرة الضوء والتقييم المادي كذلك سهولة نشر الرواية مقارنة بديوان الشعر.

ما الرواية التي تعدها عملا استثنائيا في مشروعك الروائي؟

لا أستطيع تقييم أعمالي، إلا بالحديث عن أيها أحَبّها لنفسي. كلمة عمل استثنائي مقاسها أوسع من أن أتحدث عنها كذلك. وأظن أن مشروعي الروائي ما زال مفتوحاً، وفي طريقي لاستكماله واستكمال الكثير من الأفكار.

الرومانسية تحتل مساحة إبداعية لديك، هل أنت كاتب رومانسي؟

لابد أولاً من تعريف ما هي الرومانسية، فلها معان كثيرة وتختلف من شخص لآخر، بمعنى ما، يمكن الموافقة على أنني كاتب رومانسي، بشرط ألا يظن البعض أن الرومانسية حالة عتيقة عفا عنها الزمن، أو أنها وضع قديم كلاسيكي، وحتى الكلاسيكية تحتاج الى تعريفات لن يتفق الجميع على معناها.


قلت إن روايتك الأولى (مدن بلا نخيل)، لم تفكر في كتابتها إلا وأنت في حالة من الوحدة في مدينة أوروبية، هل هذا صحيح؟

ليست فقط روايتي الأولى (مدن بلا نخيل) التي كتبتها في حالة من الوحدة، بل كل ما كتبته منذ يناير ١٩٨٤م في فيينا لفترة ما يقرب من ثلاث سنوات أو أكثر، متأثرا بلغة أنا غريب عليها وعادات وتقاليد مختلفة وجوّ شتوي عشته حقاً لا وصفاً، وحالة من الفقر المادي في مدينة غنية جداً يموت من ثرائها وافدو العالم النامي (على حد تقليد تعبير الطيب صالح: تموت من بردها الحيتان).

كتبت كما قلت لأدافع عن نفسي ونفسيتي ولغتي وتاريخي في تلك الجغرافيا الجديدة المختلفة تماماً عن البيئة الإنجليزية أو الفرنسية التي غامر فيها الرواد الأوائل. الكتابة كانت حالة إنقاذ ودفاع عن النفس ضد الموت البطيء في مجتمع أنا الغريب فيه.

الراحل الطيب صالح قال في تقديم مجموعتك (الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء) إن قصة (رب البنات) تصلح أن تكون رواية كاملة، ما رأيك في قول الطيب صالح؟

الطيب صالح مفكر كبير وله ذائقة عالية وقد شرفني بمقدمة لأول مجموعة قصصية لي (الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء)، كتبها في عام 1993من لندن. حكاية(رب البنات) طويلة نسبياً، عن الأب الذي يُرزق ببنات فيشعر بالوطأة المجتمعية الثقيلة ولا يرتاح إلا بتزويجهن حتى ولو على عجل لأول طارق لباب الزواج.

جاب الله الأب أسرع بتزويج بناته هند ومريم وريم في ليلة واحدة، ليتخلص من العبء لكنهن عشن في حياة موجعة. تناولت القصة مختصرات من تعاساتهن التي كانت تحتمل التطويل والتوسع بلا ملل. رأي الطيب صالح صحيح لأن هذه القصة اختصرت كثيراً من الأحداث المهمة، وكانت تتسع لأضواء أخرى على الشخصيات المتعددة والمهمة، لكني أفضّل أن أميل في القصص إلى التكثيف.

حدثنا عن علاقتك بالطيب صالح؟

العلاقة الأولى كانت من ناحيتي: قراءة ودهشة مفرحة بعالمه الجميل ولغته الجزلة السلسة، والسعادة بالاحترام الكبير والتقييم الذي لقيه خارج السودان أولاً. لاحقاً تواصلت معه تليفونياً عبر صديقنا المشترك وصديقه في محطة البي بي سي، الناقد والشاعر الكبير دكتور صلاح نيازي، وهو أول من نشر لي قصة في لندن في مجلة (الاغتراب الأدبي) في عام 1988.

تواصلت تليفونياً مع الطيب صالح من فيينا وهو في لندن، ومن سوء حظي أنني حين زرت لندن للمرة الأولى لم يكن هو فيها، وحين زار فيينا لم أكن أنا أيضاً فيها.

عرضت عليه مجموعتي القصصية، فكتب لي مقدمة جميلة معروفة، ومعها رسالة رائعة ما زلت محتفظاً بها كتبها بخط يده.

كيف تقيّم الحضور العربي في المشهد الثقافي في النمسا؟

الحضور العربي في فيينا ضعيف إلى حد كبير، وهو غير الحضور العربي في فرنسا أو في الدول الناطقة بالإنجليزية. الوضع في ألمانيا أفضل نسبياً. لعل الكتابات المترجمة لا تلقى نفس الرواج الذي يكون في اللغة الألمانية مباشرة.
أجزم أن الجيلين الثاني والثالث ستكون له قدرات أفضل منا، لأنهم سيكتبون أولا بلغتهم الأم (الألمانية) وفوق أرضية مشتركة من تاريخ آبائهم وأمهاتهم وتاريخ الأرض التي ولدوا ونشؤوا عليها.

حزين أيضاً وبصراحة من الملحقيات الثقافية العربية التي لا تجيد التواصل مع الأدباء والفنانين الكبار في النمسا لخلق ونسج نوع من الترابط الثقافي القوي؛ فهم ضمير الإنسانية والقلب والعقل الرحيم، لكن السياسي في بلادنا يخشى بكل أسف من القوة الناعمة سواء في الداخل أو في الخارج.

السيرة عنصر مفتاحي لقراءة أعمالك، هل ترى ذلك؟

لا أظن أنه من الضروري أن أربط أعمالي الإبداعية بسيرتي الذاتية بشكل فج. لا مانع من بحث هذا التواشج لمن يرغب أو يدرس، لكن ربما الأجواء المكانية وبروز فيينا في كتاباتي يدفع بالقارئ والمتابع لموازاة العمل بالمكان وبسيرتي التي كتبت عنها كثيراً سواء في مقالات أو في كتاب سيرتي (محطات من السيرة الذاتية).

التداخل موجود بلا شك، لكن الإفصاح عنه سيفسد التلقي؛ فأجمل ما في الفن هو هذا الغموض اللذيذ الداعي للتأمل والتخيل واختيار المسارات المتعددة.

لا يمكن بالطبع التغاضي عن ست وثلاثين سنة إقامة دائمة في فيينا، وعمل أكاديمي منتظم منذ واحد وعشرين سنة، ورباط بأهل من النمسا وصديقات وأصدقاء وعالم متعدد من قلب فيينا حتى أقصى شمال البلاد حيث مسقط رأس زوجتي ومكاني الثاني الدائم بعد فيينا.

كيف ترى الجوائز الأدبية في الوطن العربي؟

الجوائز في الوطن العربي أراها مهمة وتدفع في جانب منها الى تغيير فيه الحميد وفيه غير الحميد. القيمة المادية أغرت البعض بالدخول في هذا المضمار بعيداً عن الجدية الأدبية، لكنهاسمحت أيضا بإظهار أقلام رائعة ما كان يمكن لنا أن نعثر عليها بسهولة لسنوات طويلة. من ناحية أخرى، فقد جلبت هذه الجوائز كثيراً من الضغينة والكراهية بين الأديبات والأدباء بكل أسف؛ فقد كنتُ أظن أن الروح الأدبية أعلَى بكثير من الروح الرياضية، حتى ظهرَتْ الجوائز الأدبية العربية!

وليت كل من يشكّك في جائزة ألا يتقدم إليها أبدا! وليت كل من يتقدم لجائزة أن يدرك احتمالية عدم فوزه بها، وأن يقبَل النتيجة عن طيب خاطر!

حدثنا عن تجربتك في التحكيم في جائزة الطيب صالح في الدورتين التاسعة والعاشرة.

تكرر هذا السؤال مرات، لذا سأكرر الإجابة نفسها.
تجربة التحكيم الأدبي جربتها قديماً في القصة قبل خمس عشرة سنة تقريباً لمجلة “العربي” الكويتية وإذاعة مونت كارلو، وكانت تجربة ممتعة وشاقة في أول الأمر، والجميل أن كتابها في ذاك الوقت لم يكونوا من الأسماء المعروفة، وظهرت أسماء لمعت لاحقاً، وقدأ فدت من هذه التجربة كثيراً.

تحكيمي الأدبي في جائزة الطيب صالح كان في مجال الرواية لعامين متتاليين. فيها تأتي النصوص للمحكم بأرقام، وليس بأسماء الكُتّاب.

ترقيم النصوص يقوم به أشخاص موظفون لا علاقة لهم بمجال الأدب ولا بأسماء المتقدمات والمتقدمين، يقومون بالترقيم وحذف الأسماء، بعدها يتم التأكد من توافر الشروط المطلوبة للأعمال. المرحلة التالية تقوم بها لجنة تصفي هذه من 12 إلى 18 عملاً. هذه الأعمال تُرسل إلى لجنة التحكيم المكونة من ثلاثة أشخاص لا يعرفون بعضهم بعضاً. تأتيهم الأعمال التي وصلت للتقييم النهائي.

يختار كل مُحَكّم بعد قراءة الأعمال المركز الأول والثاني والثالث مع بيان وقرار توضيحي لاختياراته، ويضاف إلى الثلاثة روائيين مختارين، اثنان في المركزين الرابع والخامس.

ترسل نتائج كل مُحَكّم لإدارة الجائزة، إن توافقت الترتيبات فيها ونعمت، وإن لم يكن، يتم ضبط الاختيار بما يتفق مع اختيار اللجنة الثلاثية، نلجأ في حالة الضرورة لعمل حوار بالفيديو أو التليفون للوصول لموافقة جماعية لتحديد الفائزين ومراكزهم.


في كل الأحوال لا يقبل كثيرون النتائج، وهذا أمر معتاد في كل الجوائز حول العالم، لكني أرى أن جائزة الطيب صالح تتمتع بشفافية كبيرة في عدم تدخل أي شخص في رأي واختيار اللجان.

هل الهوية ازدواجية؟

الهوية كتلة واحدة لا تتجزأ، وهي متغيرة على الدوام، وتغيُّرها سمة طبيعية؛ لأنها كائن حي يتطور عبر الزمان والمكان، الهوية تقبل الحذف والإضافة، نواتها ثابتة لا تتغير لكنها تكتسب كثيراً عبر الزمن. هناك جنسيات مزدوجة لكن شهادة الجنسية ليست هي الهوية. الجنسيات مغلقة، ولها حدود وشروط ومصالح. الهوية عكس ذلك مفتوحة ولا حدود لها ولا شروط.

قد تكتسب الهوية ثقافة جديدة، لغة جديدة على سبيل المثال؛ فلا تزيح اللغة الجديدة لاللغة الأم أبدا، بل تكتسب اللغة معاني جديدة وكلمات جديدة ومفاهيم أكثر اتساعاً، وتفكيرا أبعد.

حين تسافر إلى مكان جديد، تتعامل مع ثقافة جديدة، وترى وتسمع وتشم وتتذوق جديداً. كل هذا لابد وأن يؤثر فيك، إيجابياً أو سلبياً لا يهم، لكنه يمنحك خبرات جديدة تغير من تصوراتك وفهمك للعالم. هنا تتغير هويتك بالتأكيد بهذه الإضافة. الزيادة في الهوية بجديد لا تعني الإنقاص من القديم الثابت. والهوية أخيراً ليست حكراً مذهبياً كما يظن بعضنا، وبهذا يختلفون بشأنها ويظنون ضياعها، وهذا غير صحيح.

العولمة تسعى لطمس الهويات وإيجاد إنسان معولم؟

جزء من العولمة فيه شراسة وهذا أكيد. العولمة تأتي من حضارات ليست عريقة لتؤكد “عراقة حديثة” في الزمن الراهن. ولأننا تخلينا عن كثير من أصولنا الثقافية المتينة وانسقنا في دروب اتباع المظاهر وألهانا التكاثر؛ فقد اخترنا التحديث وليس الحداثة، لنجدد سياراتنا وهواتفنا ومقتنياتنا التي لم نصنعها بل ندفع أثمانها فقط.نحن لا نشارك في الحداثة العالمية بكل أسف. لذلك نحن كبشر نُعتبَر أرقاماً للاستهلاك، أو لإجراء التجارب عليها.

ما هو الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل في روايتك (وأطوف عارياً)؟
هذه الحدود الفاصلة ربما يجيب عنها ناقد أو قارئ في تحليله للنص المكتوب، أمّا إن فعلت أنا ذلك، فمعناه أنني أخلخل العمل لأجزاء لن تفيد القارئ إلا في التلصص على حياة الكاتب الحقيقية، وقد يفسد عليه متعة خياله الخاص مع النص.

من يريد البحث عن الواقع فعليه أن يذهب رأساً إلى كتابي (محطات من السيرة الذاتية)، وهي سيرة وقائع وأحداث حقيقية، سيتبعها الجزء الثاني من السيرة الذاتية قريباً.

الطفولة في نصوصك لأي مدى ساهمت في تشكيل نصك الأدبي؟

أرى دائماً أن الطفولة هي خزين الفن والحياة، ومن ينجح في استحلاب هذاالعالم المدهش الثري الذي لا ينتهي، فسيمكنه أن يقدم أجمل إبداع بقلب وروح الطفل وعقل الكبير.عشت طفولة ثرية في مصر في منطقة عين شمس في القاهرة في فترة الستينيات. عرفت بلاد الفلاحين الرائعين المتاخمة لنا على بعد محطة واحدة منا (عزبة النخل)، وهي بدايات الدلتا. عرفت “الحسين” قلب مصر الأصيل؛ لأن جدتي لأمي عاشت فيها. عرفت العريش في سيناء؛ لأننا كنا نقضي شهور الصيف كلها هناك.

وأخيرا، لي خمسة أخوة وأخوات، فلك أن تتصور عدد الأقران والأصدقاء والصديقات والجارات والجيران الذين عشت بينهم ونشأت معهم!

في روايتك (وأطوف عاريا) رصدت أوضاع الأفارقة اللاجئين. ما الذي حفزك لكتابة هذا النص؟

كثير من النصوص تنتظرداخل روح الكاتب لتخرج في وقتها المناسب، تتراكم إرهاصات النص لوقت يطول أو يقصر، ثم يأتي الطلق والولادة في الوقت المعلوم.

هكذا كان الأمر مع رواية (وأطوف عارياً).ستة وثلاثون عاماً في النمسا مع معايشة تامة ومتابعة لأهم أحداث أوروبا من الداخل؛ لابد أن تخلق خبرة للكاتب المهتم لينسج عملاً من عمق المجتمع، والأفارقة لهم هنا عالم واسع يحتاج إلى مئات الكتب، روايتي صفحة منها.

كما أنني لست مع تلك الكتابة السياحية السطحية الساذجة التي قد يتلقفها بعضنا في البلاد البعيدة بفرح وتشفٍّ أو بتصور الانتصار الوهمي على الغرب، كما يفعل بعض أهل الغرب أيضا -ولو بشكل أقل- تجاه بلادنا، كلاهما يلتقيان في نقطة البغض والسطحية والسذاجة نفسها.

ما الذي سرقه المهجر من طارق الطيب؟

لا شيء على الإطلاق سرقه مني المهجر.قد يتوقع بعض الناس أن أقول: المهجر سرق مني الوطن، لكن هذا غير صحيح. المهجر لا يسرق وطناً أبدا. لم يكن بحوزتي أي شيء حين قدمت للنمسا في عام ١٩٨٤م. “المهجر” قدم لي الكثير: دراسة عليا مجانية حين رفضَتْ مصر أن أستكمل دراستي فيها إلا بمقابل مادي باهظ، وحين رفض السودان أن يقدم لي أي معونة مادية بوصفي مقبولاً لدراسة الدكتوراه في النمسا. “المهجر” قدم لي الكثير.. فرصة عمل مرموقة في أكبر جامعات أوروبا، وتقييم أدبي محترم، وكثير من المنح الأدبية السنوية الكبرى، ووسام الجمهورية النمساوية ودرجة سفير فخري للنمسا، وغير ذلك. كل هذا وأنا في الأصل لم أولد في بلادهم ولا أدين بدينهم. يمنحونك جنسيتهم وعليك أن تحولها إلى”مواطنة فعالة”، أن تشارك اجتماعياً أولاً، وأن تنتقد بحرية أخطاء المجتمع الذي تعيش فيه، وأن تتخفف من “البروباجاندا” الإعلامية الشخصية لصالح الجاد الصامت الأهم، بعيداً عن التفاخر المزيف المبالغ فيه بنقل صور احتفائية واستعراضية شخصية لأهلنا بلا وجه حق. فكثير من النماذج هنا في أوروبا تقدم صوراً كاذبة عن نفسها، بينما هي تعيش على منح وإعانات الدولة المستضيفة، تستفيد منها لكنها تظل ترى نفسها مضطهدة مدى الحياة.

التعليقات مغلقة.