لوجه الله

غواصات سودانية (6)

غواصات سودانية (6)
  • 13 سبتمبر 2017
  • لا توجد تعليقات

مصطفى عبد العزيز البطل

(1)
بحسب الموسوعة الدولية، ويكيبيديا، فقد نشأ مصطلح (الطابور الخامس) اثناء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن المنصرم. ويشير المصطلح الى العناصر التي تتغلغل داخل معسكر ما، ولكنها تعمل وتوجه نشاطها لصالح المعسكر المضاد له.
وكانت الجبهة الاسلامية القومية قد استوردت هذا المصطلح، عقب الانتفاضة الرجبية في أبريل 1985، وزرعته في البيئة السياسية السودانية، وعمقته في الشعور العام، ثم وظفته للنيل من بعض خصومها السياسيين واستخدمت في ذلك المسعى مختلف أذرع آلتها الدعائية الضاربة.
لم تشأ ماكينة “البروباغاندا “الحركية الإسلامية المنظمة اتباع مفردات الثقافة المحلية السائدة، فلم تنعت ذلك الصنف من الخصوم بأنهم (غواصات). بل آثرت أن تستقدم لهم من الخارج مصطلحاً حديثاً موازياً. مع أن الفكرة في الحالتين واحدة، وهي الانخراط في خدمة أجندة خارجية مضادة لأجندة الكيان الداخلي الأصل.
(2)
وفي الحالة التي بين أيدينا فقد أسبغت صحافة الحركة الاسلامية صفة (الطابور الخامس) على أولئك النفر الذين أدعوا الانتماء للسودان وللإسلام، ولكنهم ولغوا – افتراضاً – وسدروا في العمالة لجهة معادية، هي “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، وارتهنوا لبعض نصرائها من قوى الاستكبار الدولي، كالولايات المتحدة.
وربما كان في الإنعام على هؤلاء بالمستورد من الالقاب ما يميزهم ويُعلى من أقدارهم، والله اعلم. لا سيما أن جميع من اطلقت عليهم صفة (طابور خامس) كانوا من المثقفين، حملة الدكتوراة من الجامعات الاوربية والامريكية، فضلاً عن بعض المهنيين من أصحاب التأهيل العالي.
وكما تُقصر الصلاة عند السفر، فقد عمد الحركيون الإسلاميون الى قصر الصفة عند المكايدة، وذلك بأن أزالوا عنها لفظة (الخامس)، فاقتصرت على كلمة (الطابور) وحدها، فصاروا يقولون: “فلان طابور”!
وقد شهدت شخصياً، عهد الديمقراطية الثالثة، بعض التظاهرات والندوات والتجمعات السياسية الهادرة، التي كانت تؤمها حشود الموالين للحركة الإسلامية في مشارق المدن السودانية ومغاربها، فكان قلبي يكاد ينخلع من مكانه كلما دوى الهتاف الشهير: (الدائرة تدور على الطابور)!
(3)
في طليعة من نالوا (وسام الطابور) الاستاذ السابق بجامعة الخرطوم الدكتور تيسير محمد أحمد، الذي نعرف أنه من منظمي وقادة انتفاضة السادس من أبريل 1985 (استبسل تيسير في تلك الانتفاضة استبسالاً دفع بعناصر جهاز أمن الدولة المندسة وسط المتظاهرين لترصده. وقام أحد هذه العناصر بتوجيه اصابة مباشرة له باستخدام صاعق كهربائي يعمل ببطاريات شحن عالية، وقد تسببت له تلك الاصابة في إعاقة بعض اعصاب الظهر والرقبة، واحدثت عاهة مستديمة ظلت تؤثر على حركته في المشي، منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا).
ومن بين من كستهم آلة “البروباغاندا” الإسلاموية وشاح الطابور الدكتور الواثق كمير، والدكتور عشاري أحمد محمود، والدكتور محمد الأمين التوم، والدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى. وآخرون من أساتذة جامعة الخرطوم ممن حامت حولهم شبهات التداخل مع “الحركة الشعبية” ووكلائها من الفرنجة.
ولكن الدكتور تيسير محمد أحمد يتميز على غيره من “المطوبرين” (اى الذين اطلقت عليهم صفة الطابور) بأنه الوحيد الذي جمع بين الحسنيين، “الطوبرة والغوصنة”!
وكان هذا الحبيب قد شارك، في مرحلة لاحقة من حياته، في تأسيس وقيادة تنظيم “قوات التحالف السودانية” التي اتخذت من اسمرا قاعدة لها. وعندما حدث الخلاف الأكبر الذي أعقبه إنشقاق الحركة وانقسامها في ابريل 2004 التزم صاحبنا، ضمن قطاع واسع من عضوية التنظيم، موقف الدعوة الى اندماج و”اندغام” قوات التحالف داخل كيان الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد الراحل جون قرنق. وهنا تعرض الرجل الى هجوم كاسر وكاسح من قائد تنظيم التحالف العميد عبد العزيز خالد، الذي وصفه – بين أوصاف اخرى – بأنه (غواصة للحركة الشعبية داخل قوات التحالف)!
(4)
غير أن أشهر من “طوبرتهم” آلة الدعاية الحركية الإسلامية خلال حقبة الثمانينيات كان هو المهندس صالح الخير، من منسوبي الحزب الشيوعي السوداني. والذي ذاع عنه الاتهام بأنه قُبض متلبساً بتسريب معلومات لـ”ألحركة الشعبية” عن تحركات القوات المسلحة في احدى الأرجاء المتاخمة لمناطق العمليات بمنطقة الدمازين. وتعالت الصيحات في ذلك العهد تنادي بمحاكمته وإعدامه، جزاءً وفاقا.
وقد تفانت في الدفاع عن هذا المهندس “المطوبر” صحيفة (الميدان)، لسان “بني شوعان”، التي نفت عنه التهمة. وقد لفت انتباهي في هذا المسعى مقال لأحد كتاب الصحيفة جعل عنوانه (صالح الخير يعمل لصالح الخير). بمعني أنه لا يعمل (لصالح الحركة الشعبية)، وانما لصالح (الخير الوطني العام)!
طوبى “للمطوبرين”، ولا عزاء للغواصات!
(5)
في الموقع الإلكتروني (منتديات الختمية)، وهو منبر شباب طائفة الختمية على الشبكة العنكبوتية، لفتت انتباهي مناقشات موسعة، استحالت إلى جدل محتدم، حول الغواصات. الغريب أنني قرأت تحذيراً أطلقه أحد مديري الموقع. وقد حذر رصفائه بأن فتح مثل هذا الموضوع ومناقشته في العلن، ليس من مصلحة الحزب والطائفة، لأن المنبر مفتوح، ويمكن أن يطَّلع (الأغراب) على ما يدور فيه.
بيد أنني أود هنا، أن أطمئن هذا الشاب الكريم بأنني لست غريباً، إذ أنني أنحدر من أصول اتحادية، كما أنني برغم محبتي العميقة للإمام الحبيب الصادق المهدي، إلا أنني أوالي مولانا الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني في المنشط والمكره. ثم أن قرائي، ولله الحمد والمنة، من الأكارم وأهل الثقة، ممن يغضون الطرف، ويحفظون الأسرار. بارك الله فيهم جميعاً.
تابعت مناقشات الأحباب من شباب الحزب والطائفة حول ملف بعنوان (منح الحزب الاتحادي الأصل منصب نائب الوالي ،  وجوهر الملف هو قرار بتعيين السيد مجذوب أبو موسى مجذوب نائباً للوالي ووزيراً للزراعة والري، ممثلاً للحزب الاتحادي الأصل. وقد قرأت مداخلات عدّة تشيد بهذه الشخصية ودورها وتاريخها المشرّف، وترحب باختيار الرجل للمناصب التي هو أهلٌ لها. وقد أسعدني وأثلج صدري هذا الالتفاف حول ممثل الحزب.
ولكنني فوجئت بعد ذلك، بمرافعة مطولة من تسعمائة كلمة، سطرها الأستاذ عباس عمر المحامي، وهو من “الكادرات” النشطة بالحزب والطائفة، وقد ابتدر مرافعته بهذه الكليمات: (للذين لا يعرفون من هو مجذوب أبو موسى أقول: مجذوب أبو موسى هو أحد غواصات “المؤتمر الوطني” المزروعة داخل الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل منذ اتفاقية القاهرة، وتاريخ الرجل يشهد على ذلك). وأشار إلى أن المذكور سبق له أن انضم رسمياً لحزب “المؤتمر الوطني”، ولديه بطاقة عضوية، وأنه عمل مديراً لمكتب الوالي (المؤتمروطنجي) السيد/ إبراهيم محمود عام 1999.
وبحسب الأستاذ عباس عمر المحامي، الذي يبدو لي أنه مطّلع على كثير من خفايا الحزب وأسراره؛ فإن زعيم الحزب والطائفة، مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، سبق له أن أرسل رسالة خطية عبر مندوبه الخليفة الصادق محمد دين إلى رئيس الحزب بولاية كسلا السيد / حسن مزمل يبلغه فيها قراره بأن (يتم اختيار شخص لمنصب وزير الزراعة بولاية كسلا، على أن يكون من قبائل الهدندوة، وأن تجتمع حوله القبائل الأخرى دون خلاف). وقد شكك الأستاذ المحامي في الطريقة التي تم بها اختيار وتوزير هذا الغواصة، مشيراً إلى أن الاختيار تم بالمخالفة لتوجيهات مولانا.
ولكن السواد الأعظم من المشاركين عارضوا المحامي، ورفضوا تشكيكه، وساندوا مجذوب أبو موسى، وعبروا عن تعضيدهم له، بصرف النظر عن كونه غواصة. ومن جانبي، فإنني أرى أنه لو اجتمعت كلمة الغالبية حول الرجل، فلا بد من توزيره، مهما يكن من أمر “غوصنته”. ذلك هو مقتضى الديمقراطية وحُكمها وقانونها. وقديما قال الشاعر: (إذا الشعب يوماً أراد الغواصة / فلا بد أن يستجيب القدر).

*كاتب صحافي مقيم في الولايات المتحدة

mustafabatal@msn.com

التعليقات مغلقة.