خاتمة رسالة دكتوراه المؤرخ مكي شبيكة
السودان والثورة المهدية

خاتمة رسالة دكتوراه المؤرخ مكي شبيكة <br> السودان والثورة المهدية
  • 07 أكتوبر 2023
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د. بدرالدين حامد الهاشمي

مكي شبيكة

تقديم: قدم المؤرخ مكي شبيكة (1905 – 1980م) أطروحةً لنيل درجة الدكتوراه من جامعة لندن في يونيو من عام 1949م بعنوان “السودان والثورة المهدية (1881 – 1885م)”، قيل إنها أول رسالة دكتوراه في السودان في مجال العلوم الإنسانية.
وحوت الرسالة (التي جاءت في 536 صفحة) مقدمةً وتسعة فصول وخاتمة، وثبتاً بالمراجع. وكانت عناوين الفصول هي، على التوالي: إعلان المهدية، وإدارة عبد القادر باشا، وحملة هكس، والجلاء عن السودان، ومهمة غوردون، وحملات شرق السودان، وسياسة غوردون، وإنقاذ غوردون، وحملة الإنقاذ. والسطور التالية هي ترجمة لخاتمة الأطروحة.

أشكر الأستاذ محمد عمر الامين البشير لتكرمه بإرسال الأطروحة كاملةً لي.
المترجم


تُظْهَرُ الأدلة أن ثورة المهدي كانت في المقام الأول ثورةً دينية الطابع، وكانت حركة ينتظر قيامها العالم الإسلامي منذ أمد بعيد. وليس هنالك فيما قاله المهدي أو سجله في منشوراته ما يشير إلى أنه كان يعمل على الانْتِصاف من المظالم، بل على العكس، كانت كل أقواله ومنشوراته تؤكد بوضوح على إصلاح الجانب الديني، وضرورة العودة لبساطة الإسلام. وكان اِمْتِعَاضِهِ ونقمته من الأتراك في الأساس بسبب ممارساتهم غير الإسلامية، وليس بسبب عسفهم. وكانت العوائق الطبيعية (مثل تباعد المسافات، والحر وشح المياه) هي ما ساعدت المهدي كثيراً على تحقيق انتصاراته، إضافةً لاعتراض حزب عرابي باشا العسكري على إرسال قوات للسودان، وأخيراً بسبب هزيمة الجيش المصري في معركة “التل الكبير”، وحله من بعد ذلك (1). وأظهر المصريون، خاصة في منطقة الدلتا، الكثير من التعاطف الديني مع المهدي؛ غير أن الطبقة الحاكمة في القاهرة بقيت تجاهد بشدة من أجل الاحتفاظ بالسودان.
ولم يبد البريطانيون بعد احتلالهم لمصر إلا أقل القليل من الاهتمام بالسودان، إذ لم يكن لهم أي سبب خاص ليهتموا به، وكانوا يعدون ثورة المهدي أمراً محلياً خالصاً لا يخص غير مصر. وكان ذلك الاتجاه يتسق مع سياستهم العامة التي كانت في ذلك الوقت تهدف لتحاشي أي التزامات، حتى في مصر نفسها. وكانوا، حتى في مصر التي لهم فيها مصلحة واضحة، يؤكدون أنهم طالما كانوا يسيطرون على البحار، فبإمكانهم منع أي قوة من ممارسة السيطرة على مصر، ومن تعريض مصالحهم للخطر. لذلك، رأوا أنه من غير اللازم عليهم تحمل مسؤولية الحفاظ على الأمن الداخلي في مصر. ولكن بما أن مصر عجزت عن المحافظة على مملكتها في السودان بعد هزيمة هكس، نصحت الحكومة البريطانية أولاً، ثم أصرت على أن تتخلي مصر عن السودان حتى توقف المزيد من الاستنزاف لقوى الجيش المصري البشرية ولمصادر البلاد المالية.

وفي نهاية المطاف أُرْسِلَ غوردون إلى السودان لسحب القوات المصرية منه. غير أنه لم يكن قادراً تماماً على التعامل مع الموقف (الذي وجد نفسه فيه). وكانت في شخصيته، وفي طريقة تعامله مع الموقف، الكثير من المآخِذ. وكان غوردون قد أعد خططا مستفيضة ومُعقَّدة قبل وصوله للخرطوم، وعمل على دراسة المشاكل فيها. وكان موقفه من الزبير (رحمة) مُتَبَايِناً يفتقر للاتساق. وكانت خططه الجديدة (أو خططه السابقة بعد تعديلها) هي نتاج للتغييرات التي حدثت في الوضع بالسودان. غير أنه كانت يفتقر للقدرة على التعبير عن نفسه بطريقة مقنعة للوزراء والمسؤولين الدائمين في إنجلترا. وبالإضافة لذلك، لم يأخذ غوردون في الاعتبار إمكانية تطبيق اقتراحاته، ولم يحسن تقدير الاختلافات في تنفيذها. فقد كانت الكثير من اقتراحاته غير قابلة للتطبيق إلا عن طريق ديكتاتور، وليس عبر آليات حكومة برلمانية.

وكان البرلمان البريطاني يمارس نفوذا كبيراً على سياسة الحكومة، خاصة في الأمور ذات الأهمية العالية. ومن أمثلة التأثير والنفوذ القوي لليبراليين من أعضاء مجلس العموم البريطاني هو رفضهم السماح بإرسال الزبير (رحمة) إلى السودان، وحملة جراهام إلى سواكن (2). وكان أهم الذين بادروا بوضع السياسة البريطانية (حيال السودان) هم نورثبروك وبارينق في البدء، ولاحقاً هارينقتون، وجلاديستون (صاحب النفوذ الأعظم). وحتى في البرلمان، تم الإدلاء ببيانات حول سياسة الحكومة من قبل وزراء مثل دايك عوضاً عن قرانفيل ، على الرغم من أن هذا يرجع جزئياً إلى حقيقة أن قرانفيل كان عضواً في مجلس اللوردات، ذلك المجلس الذي لم يبد مثل هذا الاهتمام الحيوي بالسياسة الحكومية في شؤون السودان كما اتخذها مجلس العموم.

غير أن ذلك الإجراء الذي اتخذته الحكومة البريطانية في نهاية المطاف كان قد أتخذ بعد فوات الأوان. لقد كان هناك فشل عام في القاهرة، وكذلك لندن، في تقدير طبيعة الثورة المهدية، وحقيقة أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في السودان كانت تصب في صالح نجاح المهدي.
ربما يقدم خطاب السير هنري بونسوني (3) إلى بارينق (لورد كرومر)، بتاريخ 19 مارس 1885، أفضل تعليق على هذا الفشل:
“… أعتقد أننا علينا جميعا هنا – الناس كلهم، كبرائهم ومن هم دون ذلك – أن نتقاسم جميعاً المسؤولية لأننا لم نستوعب الوضع كما كان ينبغي لنا أن نفعل”.


إحالات مرجعية
(1) وقعت معركة التل الكبير بين قوات عرابي وجيش الخديوي توفيق في يوم 13 /9/1882م بمنطقة “التل الكبير” القريب من منطقة القناة. أنظر https://shorturl.at/AGJW1
(2) الجنرال الإنجليزي المقصود هو جيرالد جراهام (1831 – 1899م) قائد حملة سواكن الحكومية ضد قوات المهدية بقيادة عثمان دقنة في معركتي التيب (الثانية) والتاماي عام 1885م. https://shorturl.at/hB056
(3) كان الضابط السير هنري فريدريك بونسونبي من رجال البطانة الملكية، وشغل منصب السكرتير الخاص للملكة فيكتوريا.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.