الإبداع في ركب الحراك الشعبي

  • 22 فبراير 2019
  • لا توجد تعليقات

جمال محمد إبراهيم

(1)

في 12 فبراير2019، دعا حزب الأمة القومي، إلى جلسة تداول مفتوحة في دار الإمام الصادق المهدي، حول الجوانب الثقافية المساندة لحراك الشارع السوداني. تلقيت الدعوة بهذا الفهم من القيادي بالحزب الدكتور إبراهيم الأمين، طالباً مني التكرم بإدارة جلسة التداول تلك. قبلت ذلك التكليف بحكم نشاطي في ذلك المجال ولصوتي المسموع في الأوساط الثقافية والإعلامية، وأيضاً لقناعتي برجاحة الفكرة.

في انتفاضته المتواصلة لإحداث التغيير المطلوب، كان للشباب دوره المشهود. كان فهمي أن الجلسة ستخصص للشباب، نستمع لآرائهم ومرئياتهم، وما يمكن أن نتحاور حوله من شئون، في تنشيط الإبداع الثقافي والفني والرياضي الذي يمكن أن يشكل إسناداً لازماً لذلك الحراك المفضي إلى محاصرة النظام.

(2)

في إقرارنا أن الاحتجاجات المتواصلة وبمتابعتنا لوتيرتها، فإنها لا تقف عند سقف زمني يحدها، كما أنها – بحكم طبيعة ساحات المواجهة مع النظام – ستتجاوز الطرق التقليدية في حشد المعارضين، وتعتمد وسائط التواصل الاجتماعي المتاحة، من “واتساب” و”فيسبووك” و”يوتيوب”. ذلك تطور مبتدع لم يكن معروفاً خلال ثورتين نجح السودانيون في إنجازهما، الأولى في 1964 والثانية في عام1985. إن ثورتي الاتصالات والمعلوماتية، أوجدتا واقعاً جديداً في مفتتح الألفية الثالثة، أمكن معه اعتماد هذه الوسائط في التواصل بفعالية مع مختلف فئات الشباب والنساء وحقق نجاحاً في حشدٍ متواصلٍ لهذه الاحتجاجات.

ولكن ما علاقة ذلك بالجانب الثقافي للحراك الاحتجاجي على النظام، الذي أراده معدّو هذه الجلسة. . ؟

(3)

حين انعقدت جلسة التداول تلك حول الإسناد المطلوب للحراك الشبابي، كان ملاحظاً الاستجابة الواسعة للدعوة، وكان لافتاً حضور عددٍ معتبرٍ من الفنانين والمطربين والرياضيين والتشكيليين والنقاد والشعراء والمسرحيين، بفعالية عالية. كانت مداخلاتهم ذات وزن، ومقترحاتهم أكثر مباشرة، أرادوها أن تصب، ليس في حماية تلك الانتفاضة فحسب، بل في إبقاء الزخم قوياً مؤثرا، والحماس متواصلا لمحاصرة النظام.

من اللافت أن ربيع السودان الأول في عام 1964 قد دام لأيام قليلة، وسقط النظام بعدها. في الربيع السوداني الثاني في أبريل 1985، لم تطل الاحتجاجات لأكثر من أسبوع وانهار النظام. لتسارع الأحداث، ما كان مطلوبا وقتها، من أهل الثقافة والفن والرياضة ، إسناداً أو دعماً لإنجاح محاصرة النظام . كان طبيعياً أن انفعال فئات المثقفين والفنانين والرياضيين، أن يلي نجاح الثورة فيحدث عنها . كان صوت الشعراء والمطربين والرياضيين عالياً، إذ كتب المشاركون شهاداتهم، وأنشد المطربون أناشيدهم، وسجل السياسيون مذكراتهم ، والتشكيليون رسوماتهم ، لكنها جاءت بعد نجاح الثورة وانتصارها، فكان إبداعهم هو الذي عزّز رسوخ الثورة في الوجدان . لربما تضيع من الذاكرة تفاصيل تلك الاحتجاجات والتظاهرات التي جرت في أكتوبر من عام 1964، ولكن رسخت قصائد “أمتي” لمحمد المكي ابراهيم، في وجدان كل سوداني. ورسخت أناشيد محمد الأمين ، ومحمد وردي وبقية المطربين الذين وثقوا ، الحراك عبر إبداعهم الثقافي ، شعراً وغناءاً . .

(4)

ها نحن نرى الاحتجاجات المتواصلة منذ 19 ديسمبر 2018، وحتى ساعة كتابتي هذه، ولا يبين لها سقف ولا وهن عزم شباب الشارع السوداني، في تطلعه لانتصار بزوغ شمسه قادم. إلى ذلك فإن المحور الثقافي لن يقف منتظرا نجاح الثورة وأيامه متطاولة، ولكنه سيتزامن مع حراك الشارع، دعماً وإسناداً وتوثيقا. . ثمة أهازيج للثورة أبدع فيها مطرب شاب مبدع اسمه صلاح يسري وبثها على وسائط التواصل الاجتماعي. ثمة شعارات وصور طبعت على أوراق وألبسة على صدور الشباب. ثمة شعراء ينظمون شعراً وأيضاً شعارات ذات إيقاع. ثمة فنانون تشكيليون ناشطون في تلوين جداريات المدينة بشعارات الثورة . ثمة مسرحيون بدأوا يعدون اسكتشات عن وجوه معاناة الشعب جراء سياسات النظام . . ذلك هو الإسناد الثقافي المواكب للحراك الشبابي، ونريده متزامناً معه خطوة بعد خطوة، فلا تخمد للثورة جذوة..

غير أن تلك الجلسة التداولية التي أدرناها في دار الإمام، لم تنج من انتقادات، من بعض من رأى أننا نضيع وقتاً في الحديث عن الشعر والغناء والرسم والرياضة، فيما شباب الاحتجاجات الشعبية، يقتلون في الطرقات، برصاص قناصة النظام الملثمين.

ينسى المنتقدون أن نظاماً مثقلاً بمتون الفشل، وها هو يكمل عامه الثلاثين، يحتاج لوقت طويل ولنفس أطول، حتى يكتمل بذهابه موسم الربيع الثوري، بالسياسي الذي فيه وبالثقافي، وهو موسم قد يحسب بالأشهر، وليس بيومٍ أو بعض يوم.

(5)

برغم إصرار بعض الشيوخ الحاضرين، على فتح ملفات التنسيق السياسي بين التيارات التي تواجه النظام، خاصة والسيد الإمام كان حاضراً ومشاركاً في تلك الجلسة، إلا أن الملفات السياسية المباشرة، لم تكن من أغراض جلسة المثاقفة والتداول التي أدرناها في تلك الأمسية. الذي علمته في حينه، هو أن السيد الإمام قد أعدّ لمؤتمر خصّص لذلك الشأن في اليوم التالي لجلستنا تلك. لربما لم تكن الدعوات المقدمة لحضور الندوة بالوضوح اللازم ، أو أن من بين معدّي الجلسة من لم يكن راغباً في اقتصارها على المحور الثقافي وحده، بل أرادها سياسية أيضاً .

حسناً فعل الشيوخ السياسيون بحضورهم، فقد مازجوا أصواتهم بأصوات الشباب. أفسحتْ جلسة التداول في دار الإمام، كامل المجال لصوت الشباب ولمجالات إبداعه، فما أفدح ما ضاع خلال الأعوام الثلاثين من أغنيات منع بثها، ومن دور عروض سينمائية أغلقت بالشمع الأحمر، ومن كتبٍ حظر نشرها وتوزيعها، ومن مسرحيات أخضعت “للسنسرة”. .

إن للإبداع صوته المسموع في الحراك. .

وتحيتي الخاصة لثلاثة : للاعب الموردة المخضرم عوض الكباكا لحضوره الأنيق، وللفنان سيف الجامعة لإبداعه الثوري، ولصاحب الدار الإمام الصادق. .

jamalim1@hotmail.com

الخرطوم – 21 فبراير 2019

التعليقات مغلقة.