المؤلف تناول الإيجابيات دون السلبيات

قراءة في كتاب: التفرد والسماح.. أطروحة في حب الوطن

قراءة في كتاب: التفرد والسماح.. أطروحة في حب الوطن
  • 05 أكتوبر 2017
  • لا توجد تعليقات


الطيب عبدالرحمن (يسار) وعثمان الجسن (يمين)

أهداني أخي وصديقي معلم الأجيال الأستاذ الطيب علي عبد الرحمن، آخر مؤلفاته بعنوان (التفرد والسماح: أطروحة في حب الوطن). وقد سبق أن أصدر المؤلف عدة كتب نذكر منها: “العولمة: قدر أم اختيار؟”، و”الخصخصة وتجربة السودان”، و”الإسلام والعولمة”، و”حنتوب الثانويةالجميلة”، توثيق تجربة مدرسة حنتوب الثانوية،التي عمل فيها المؤلف استاذًا ومديرًا عدة سنوات، تميزت بالعطاء الكثير والأداء المتميز، والتفاني في العمل، والعلاقات الأخوية الصادقة مع الزملاء والطلاب الأوفياء الذين كان ومازال يتواصل معهم المؤلف باستمرار.

وقد هدف الكتاب إلى مخاطبة الوجدان السوداني وخاصة فئة الشباب؛ لكونهم مستقبل الأمة ومحور التنمية وعمودها الفقري، وركز المؤلف عفي إعلاء شأن الأوطان من خلال تقديم نماذج من الشعر والأدب الشعبي والفن والتراث والحضارة السودانية الضاربة في عمق التاريخ الممتد لأكثر من عشرة ألآف سنة. وقد استعان المؤلف بالأدب والتراث والفن والفلكلور في هذا السفر؛ لكونها أكثر صدقًا وتعبيرًا للحياة العامة؛ ولأنها ترسخ الكثير من القيم والمعاني الإنسانية الرفيعة التي تميز بها الشعب السوداني.

والكتاب يعرف القارئ بإرثنا الحضاري، ويؤكد الاعتزاز بتاريخ السودان العريق، ومجده التليد كدولة راسخة في القدم، ويجعل النشء يفكرون في ماضيهم، ويتأملون في الحاضر لاستشراف المستقبل. كما أن الكتاب يعرف الأجيال الجديدة بما يزخر به السودان من قيمة نضالية مهرها الآباء والشهداء بدمائهم الطاهرة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: البطل عبد القادر ود حبوبة، والبطل علي عبد اللطيف، وعبد الفضيل الماظ وغيرهم.

تضمن الكتاب استعراضًا لحضارة السودان القديمة إحدى أبرز حضارات القارة الأفريقية، والمتمثلة في كرمة ومروي، وهما اللتان عرفتا بحضارتي كوش الأولى وكوش الثانية على التوالي، وامتد نفوذ تلك الممالك إلى مصر شمالًا، وقد وضعت تلك الممالك نظامًا سياسيًا واقتصاديًا متطورًا، ثم عبر بنا المؤلف إلى المرحلة الوسطى من تاريخ السودان التي تمثلت في قيام الممالك النوبية الثلاث، التي تأثرت في البداية بانتشار المسيحية: نوباتيا في أقصى شمال السودان، وعاصمتها فرس، والمغرة وعاصمتها دنقلا، وعلوة وعاصمتها سوبا.

وبعد سقوط الممالك في السودان قامت الدولة الاسلامية الاولي في السودان بعد أن تحالف الفنج والعبدلاب، وقامت الدولة السنارية (السلطنة الزرقاء)، وعاصمتها السياسية “سنار”، وعاصمتها الدينية حلفاية الملوك، كبديل لقري التي كانت مقراً للعبدلاب ، وتزامن قيام الدولة السنارية مع سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس، كأنما جاءت الدولة الإسلامية في السودان كبديل لدولة الأندلس. وبجانب السلطنة الزرقاء كانت هنالك سلطنة كردفان (المسبعات، وتقلي في جبال النوبة)، وسلطنة الفور في منطقة دارفور.

وتضمن الكتاب توثيقًا للأمكنة والشخصيات السودانية، وكنوز السودان الشامخة من أهرامات ومعابد وقلاع، وخزف ورسومات فخارية وأوانٍ ومتاحف وطبيعة ساحرة، تحكي عظمة تاريخ السودان القديم والحديث.

وأهم ما أعجبني في الكتاب تناول المؤلف بشيء من التفصيل التنوع الثقافي في السودان –الفصل الثاني-، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف نجعل من هذا التنوع سوداناً واحداً موحدا في الرؤية والرسالة والأهداف، لتنمية الوطن ونمائه واستقراره، ولتعزيز قيمة الولاء له، وليس للقبيلة ولا للحزبية أو الجهوية التي ظهرت بقوة في مجتمعنا خلال فترة حكم الانقاذ الحالي، وأثرت سلبًا في مفهوم المواطنة الحقة، والمساواة الكاملة؟ ولن يصبح هذا التنوع الثقافي دافعًا لوحدة البلاد وتضامن شعبها، إلا إذا عدنا إلى الشورى والديموقراطية، وإطلاق حرية الرأي والتعبير، واحترام سيادة حكم القانون، ونبذ أسلوب إقصاء الآخر، والبعد عن تأجيج نار الفتنة والخلاف بين المؤسسات الحزبية والمجتمعية. واتفق مع المؤلف في أنه إذا أردنا ترميم أنساق المجتمع الذي ظهرت فيه مظاهر الاحتراب والوهن، فلابد من كبح جماح الاستعلائية العرقية والحزبية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش واحترام الرأي والرأي الآخر التي عرف بها مجتمعنا السوداني المتسامح.
وتطرق المؤلف في الفصل الثالث، بشيء من التفصيل إلى التطور الدستوري في السودان وأشكاله، بدءً بحقبة حضارة السودان القديم التي تمثلت في فكرة الملكية، ومروراً بالحقبة المسيحية التي مثلتها ثلاث ممالك نوبية. وعقب دخول الإسلام والهجرات العربية إلى السودان ظهرت ممالك السودان ومشيخاته، وسميت تلك الحقبة بالدولة السودانية الثالثة.

أما فترة الاستعمار التركي/ المصري، فقد قسمت البلاد إلى مديريات ومراكز ووحدات إدارية مستخدمًا نظام المركزية في الحكم، والذي أثبت فشله، الأمر الذي أدى الي تعديله في عام 1843م الي النظام اللامركزي. وجاءت حقبة الثورة المهدية التي اتسمت بالعمل الدعوي ومنازلة الاستعمار في عدة معارك، واعتمدت الدولة المهدية النظام المركزي، بدعم ديني وقبلي مسنودًا بقوة عسكرية من الجهادية، وقسمت الدولة إلى وحدات تسمى (عمالات)، على رأس كل منها أمير.

وخلال حقبة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري وضعت الإدارة البريطانية حاكمًا على السودان على قمة هرم السلطة بسلطات مطلقة بلا حدود، منحته إياه اتفاقية الحكم الثنائي، بنظام إداري مركزي، وبمعاونة ثلاثة سكرتاريين (قضائي، ومالي، وإداري)، وقسمت البلاد إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز، وقسمت المراكز إلى وحدات إدارية.

واختتم المؤلف هذا الفصل من الكتاب بالبرلمانات والمجالس التشريفية، ومجالس الشعب، والمجلس الوطني، وغيرها من النظم الدستورية التي اعتمدت خلال فترات الحكومات الوطنية، عقب استقلال البلاد.

وأود أن أشيد هنا بالجهد المقدر الذي بذله المؤلف في جمع المادة العلمية القيمة، بما في ذلك الوثائق والصور والخرائط وغيرها. كما أود أن الإشادة باللغة التي كتب بها السفر، فقد جاءت لغة علمية سهلة، ودقيقة وسليمة، باستثناء بعض الأخطاء المطبعية، والأخطاء في تواريخ بعض الاحداث والوقائع التاريخية، التي يمكن تداركها في الطبعة الثانية.

وفيما يلي أقدم بعض الملاحظات حول موضوعات الكتاب، علها تساعد المؤلف عند إعداد الطبعة الثانية لهذا السفر القيم، الذي كتب من منطلقات وطنية صادقة لإبراز دور السودان الحضاري والتاريخي، وتطوره عبر الزمن، ولتعريف الأجيال المقبلة بالمواقف البطولية لأجدادهم الذين سطروا بدمائهم الطاهرة تاريخنا الناصع والمشرف لنا جميعاً:

1. تحدث المؤلف عن الخدمة المدنية التي أسسها الإنجليز، وأشار الي أنها “تميزت بالكفاءة والانضباط والنزاهة، والمحافظة على المال العام، والاهتمام بقضاء حوائج الناس، واحترام العمل بمرجعية أخلاقية ومهنية رفيعة، كمالًا في السلوك وثقة في التطلع وصدقًا في التوجه ورقة في التعامل”. واكتفى المؤلف بعرض هذا التاريخ الناصع للخدمة المدنية، وأغفل ما آلت إليه الخدمة المدنية في بلادنا من تدهور وقصور بسبب التدخل السياسي، وإحالة آلاف العاملين من ذوي الكفاءة والخبرة إلى الصالح العام، وإحلال ذوي الولاء السياسي من عديمي الكفاءة وقليلي الخبرة. كما لم تسلم القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى من مطرقة الإحالة لصالح العام، الأمر الذي جعل معظم قيادات القوات النظامية من كوادر الحزب الحاكم.

2. على الرغم من الصفات الحميدة التي تميز بها الشعب السوداني من معظم شعوب العالم من أخلاق نبيلة وسمعة حسنة وتعاون وتسامح، إلا أن المؤلف قد أغفل الجوانب السلبية للشخصية السودانية، وخصوصاً النخب، من مدنيين وعسكريين، الذين أدمنوا الفشل في حكم وإدارة شؤون البلاد والعباد منذ الاستقلال، وأصبحت بلادنا تدور في حلقة مفرغة بين الأنظمة الديمقرطية والإنقلابات العسكرية، التي حكمت البلاد أكثر من نصف قرن، بأنظمة شمولية صادرت حرية الرأي وحرية التعبير، وأحكمت الرقابة على الصحف وصادرتها، الأمر الذي أدى إلى الفساد الإداري، والاخلاقي، والمالي والتصرف في المال العام.

3. يلاحظ أن المؤلف يلجأ للمبالغة وتضخيم المواطن السوداني ولا ينظر إلى سلبياته، ويكتفي بالنظر إلى النصف المملوء من الكوب، ويشير المؤلف في عدد من المواقع إلى أن بلادنا مستهدفة ومكبلة، ولكنني أرى أننا نحن المسؤلون عن تدهور بلادنا بسبب سوء إدارتنا مؤسسات وإدارات الدولة المختلفة.

4. على الرغم من أن الفصل الثامن من الكتاب قد تناول دور المرأة السودانية وإنجازاتها في مختلف المجالات، إلا أن الأمثلة التي قدمت في الكتاب ركزت في نساء المؤتمر الوطني، ومعظمهن من حديثي التجربة في العمل العام، وأهملت نساء كثر قدمن الكثير لنهضة الوطن، وحققن استقلاله ونمائه، أمثال/ الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم، وسعاد إبراهيم أحمد، وعواطف عثمان، ومحاسن عبد العال، ونفيسه كامل، وساره نقد الله، ونفيسة أحمد الأمين، ود.فاطمة عبد المحمود، وميرى سوسرى إيرو، وحواء علي البصير، وحواء الطقطاقة، وأمينة إمبابي ، وحاجة كاشف، وفاطمة طالب، والقائمة تطول. وقد أسهمن جميعاً مع زميلاتهن إسهامات كثيرة ومقدرة في التنمية والحركة السياسية ، والحركة النسوية ، علي المستويات المحلية والاقليمية والعالمية، و قد قدمن الكثير في مجال تعليم المرأة ومناصرة قضيتها العادلة.

5. أكثر المؤلف من الاستشهاد بالمقالات الصحفية بدلًا من المقالات والمراجع العلمية، والمصادر التاريخية في توثيق الأحداث والوقائع التاريخية.

6. معظم الحديث عن المدن السودانية يعود إلى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وكنت أتوقع من المؤلف أن يجدد تلك الإحصائيات والبيانات عن المدن السودانية، خصوصاً الكتاب قد صدر حديثًا في عام 2015م.

7. تطرق المؤلف في أحد فصول الكتاب الي مدينة الخرطوم كزهرة أفريقيا، نتيجة لروعة حدائقها المزدانة بالزهور، وموقعها بين ضفتي النيلين الأبيض والأزرق، ولكنه لم يتطرق إلى ما أصابها اليوم من تدهور في صحة البيئة والنظافة، وما تعانيه من نقص في الخدمات، وانقطاع في التيار الكهربائي، ومشكلة المواصلات، والهجرات المتزايدة من خارج البلاد وداخلها، وغيرها من مشكلات النمو الحضري المتسارع.

onour99@hotmail.com

التعليقات مغلقة.