القبض على أخطر شيوعي متنكراً في زي بواب الشيوعي الأول: عبده دهب حسنين (١-٢)

القبض على أخطر شيوعي متنكراً في زي بواب الشيوعي الأول: عبده دهب حسنين (١-٢)
  • 29 يونيو 2025
  • لا توجد تعليقات

ياسر عرمان

        (١) 

يرجع تاريخ الفكر الاشتراكي الحديث في السودان إلى ما بعد ثورة ١٩٢٤ وهنالك إشارات متفرقة حول تسرب الفكر الاشتراكي والفابية ما بعد الثورة او متزامنة معها وهي قضية جديرة بالبحث والتوثيق.
عبده دهب حسنين ربما كان الشيوعي الأول من جذور سودانية الذي تم اعتقاله في السجون المصرية ومن ضمنها اعتقاله عام ١٩٤٦ ايام النظام الملكي، وقد اعتقل مع صديقه الراحل انور السادات وهي المرة التي تعرف فيها على السادات، والسادات نفسه صناعة مصرية/ سودانية إذ يمت بصلة الدم للبلدين وهو اكثر الضباط الاحرار خبرة سياسية، رغم عوائق عديدة كان بامكانها ان تحول بينه وبين ان يصبح رئيساً لمصر ومن ضمنها لون بشرته، لكنه تمكن “بمكر ودهاء الفلاحين” كما عبر لاحقاً الراحل الكبير الدكتور رفعت السعيد تمكن من الوصول لقمة السلطة في مصر في خضم صراعات الضباط الاحرار.
منذ زمن ليس بالقصير كنت انوي كتابة مقال عن عبده دهب حسنين تحية واجلال لهذا المناضل واحتفاءً بوعيه المبكر ونضاله التقدمي وصحوه عند فجر اليسار والناس نيام وودت لو تعرفت الاجيال الجديدة على هذا المناضل الفريد.
في كل مرة التقيت فيها أبنائه خالد وسهير عبده دهب إلا وذكرتهم بضرورة صدور مذكرات هذا المناضل الاستثنائي وقد كان ذلك جزء من حوارنا مع خالد الأسبوع الماضي في جنوب أفريقيا. التقيت بالسيدة عائشة شريف داوؤد زوجة المناضل عبده دهب قبل عدة سنوات ووجهت لها أسئلة عديدة حول حياتهما وقد رحلت تلك السيدة العظيمة في ٦أبريل ٢٠١٩ وكان رحيلها متزامناً مع بدء اعتصام القيادة العامة لثورة ديسمبر.
كم تأسفت في بداية الثمانينات من القرن الماضي بأنني لم أحقق امنياتي ولم انفذ بعض الزيارات التي كنت انوي فيها زيارة عدد من الشخصيات الاستثنائية وعلى رأسهم عبده دهب حسنين ويوسف عبد المجيد واحمد شامي وعبدالرحمن الوسيلة وابو جبل وعمر مصطفى المكي والأستاذ محمود محمد طه وآخرين للإجابة على اسئلة في خاطري ولم أستطع إلى ذلك سبيلا في عجلة الشباب وعدم ترتيب الأولويات، وقتها ذهبت لحال سبيلي وانضممت للحركة الشعبية، وحينما عدت للخرطوم بعد ما يقارب العشرين عاماً وانتهت الحرب الأولى التي شهدناها في عام ٢٠٠٥، وجدت ان هؤلاء الناس قد رحلوا عن حياتنا منذ زمن لملكوت السموات.

  (٢) 

عبده دهب حسنين وُلد في وادي حلفا في ١٥ يوليو ١٩١٧ وحط رحاله بمصر في عام ٣١-١٩٣٢، وابعد عن مصر في عام ١٩٥١ للسودان ورحل عن عالمنا في ٢١ مارس ١٩٩٨. لأن البداية والنهاية ليست واحدة ( البداية والنهاية) هي موسوعة عظيمة في التاريخ الإسلامي للامام الحافظ ابن كثير والذي من شدة عطائه في الكتابة سمي ابن كثير، وبداية عبده دهب حسنين لا تشبه المكان الذي انتهى اليه فقد انضم في بداياته إلى أنصار السنة والسلفيين ثم انتقل لحزب اكثر يمنيةً هو حزب (مصر الفتاة) الذي كان شعاره (الله، الوطن، الملك) ويحمل شعاره ثلاثة أهرامات.
عبده دهب في اتقاد ذهنه وتقلباته باحثاً لمستقر له انتهى به المطاف عند ابواب اليسار في اخطر تنظيماته حركياً وانفتاحاً جماهيراً والتي ترفع شعار الكفاح المشترك بين شعبي وادي النيل وعمدته بالدماء والشهداء كصلاح بشرى ومظاهرات الطلاب عند كبري عباس، لعب عبده دهب دوراً محورياً في تنجيد السودانيين لليسار المصري.
حينما التقى دكتور رفعت السعيد في بحثه العظيم عن تاريخ اليسار المصري واجرى محاضر نقاش مهمة وتاريخية مع الشخصيات المفصلية انتابه الشك في دقة حديث عبده دهب حسنين وحينما نقل شكوكه لهنري كوريل في باريس غضب كوريل وسأله عن ما قاله عبده دهب حسنين في إفاداته، وقال هنري كوريل ذو الباع الواسع في تاريخ اليسار المصري الحديث، ان عبده دهب لا يكذب وان ما ذكره عبده دهب لدكتور رفعت لا يساوي الكثير بالنسبة لما قام به عبده دهب، وذكر كوريل واقعة فائقة الاهمية من تمكن عبده دهب من تجنيد طباخ الملك وان الحركة المصرية للتحرر الوطني كانت على اطلاع تام على كل ما يقوم به الملك بفضل عبده دهب.

(٣)

قبل (٢٤) عاماً اي ما يقارب ربع قرن في ٢٠٠١ استضافنا وفاقان اموم الصديق العزيز دكتور اكيج كوج في منزله بباريس وهو أول طبيب انضم للحركة الشعبية وممثلها في باريس، وقد تخرج من كلية الطب بجامعة الخرطوم وسألته ذات أمسية عن ان هنالك يهود فرنسيون من اصل مصري دعموا حركات التحرر الوطني ومن ضمنها جبهة التحرير الجزائرية وحزب المؤتمر الوطني الافريقي وتبقى منهما في باريس يوسف حزان وريمون استانبولي الذي قال له هنري كوريل قبل اغتياله في باريس في نهاية يوليو ١٩٧١، قال له
” بالأمس في الخرطوم اعدم عبد الخالق محجوب واتمنى بان اموت واقفاً مثل ما مات عبد الخالق محجوب” وقد كان له ما تمنى.
أجابني دكتور اكيج على سؤالي ذاك المساء ان المنزل الذي يسكن به وجده بضمان من يوسف حزان ويالها من مصادفة! وبعد يومين كنا وفاقان اموم وهالة بابكر النور والشفيع عبد العزيز نطرق على باب شقة يوسف حزان في باريس (١٤) عند ساحة رينيه كوتي، استقبلنا يوسف حزان وصديقه ورفيقه ريمون استانبولي بحرارة تنسي برد باريس في فبراير ٢٠٠١ وكانت سعادتي غامرة بلقاء مناضلين تاريخيين تحدثا باعتزازهم بالعمل مع المناضلين السودانيين في سنوات مصر وانه يثقون بالسودانيين في تجربتهم في مصر ويكنون لهم احتراما عظيما، وتحدثوا عن احتفالهم الذي أقاموه بذكرى رحيل هنري كوريل وانهم قد وجّهوا الدعوة لعبده دهب لمشاركتهم في باريس ولكنه اعتذر لسوء أحواله الصحية وقد سجل لهم افادة عن هنري كوريل وارسلها لهم .
في ذلك اللقاء حملنا يوسف حزان برسالة للدكتور جون قرنق وذكر بانهم يتابعون نضال الحركة الشعبية ويقيمون عالياً دعوتها لوحدة السودان ويشعرون بان لها صلة يناضلهم وانهم قد ارسلوا المناضلة ديدار روسانو من مجموعة مصر والمقيمة في سويسرا لنيروبي لتلتقي بدكتور جون قرنق وقد جمعوا تبرعات لمصلحة الحركة الشعبية ولكن لقاء ديدار مع دكتور جاستين ياج ممثل الحركة الشعبية في نيروبي لم يمضي على ما يرام، وذكرنا يوسف حزان بضرورة تذكير دكتور قرنق بان ألمانيا هي الدولة الصاعدة في أوروبا وبضرورة توثيق العلاقة معها كمدخل لاوربا وان الكنيسة البروتستانية يمكن ان تساعد في ذلك وانهم يتطلعون للقائه، وحينما أبلغت دكتور قرنق بذلك طلب مني ان اذكره للقائهم في باريس في أول زيارة لاوربا ولكن ذلك لم يتم لان يوسف حزان وريمون استانبولي قد استعجلا الخطى لعالم آخر.

  (٤) 

كانت بداية علاقة عبده دهب حسنين مع اليسار المصري حينما عمل في النادي الإيطالي الذي غير مجرى حياته للابد من اليمين لليسار، ففي خلال عمله وبحثه عن مستقر فكري وسياسي وفي عدائه للاستعمار البريطاني التقى بأحد الإيطاليين من رواد ذلك النادي والذي ربما انتبه لعبده دهب ولاحظ تميزه، وسأله عبده دهب لماذا لا نعمل مع إيطاليا وموسيليني للخلاص من الإنجليز، وسؤاله يؤشر لموقفه الصلب من الاستعمار البريطاني ووعيه ضد الاستعمار وتفكيره اليميني آنذاك، لكن المفأجاة كانت عندما سأله الإيطالي ثم ماذا بعد ذلك؟ هل يبدل استعمار باستعمار!! وسأله هل سمع بالاتحاد السوفيتي، كانت معرفة عبده دهب بالاتحاد السوفيتي من خلفيته السلفيه بانه بلد ملحد، لكن الإيطالي أعطاه كراسات لقرائتها وطلب منه لقاء شخص مهم يسمي هنري كوريل ولابد ان الإيطالي كان من اعضاء (حدتو) التي يقودها هنري كوريل،بعدها تم القبض على بعض الإيطاليين ومن ضمنهم صاحب عبده دهب الذي طلب منه البحث عن هنري كوريل.
كان عبده دهب يقوده ذهنه الباحث عن المعرفة والمتاعب والمتشوق للإجابة عن اسئلة العالم الكبرى! حينها كان يداوم على حضور محاضرات سلامة موسى احد رواد الاستنارة الكبار في مصر وانخرط في النقاش مع سلامة موسى ذو الكعب العالي.
انقطعت صلة عبده دهب بصديقه الإيطالي الذي دخل المعتقل. وفي احدى المرات وبينما هو جالس بقهوة جاء أحدهم بلباس غريب عبارة عن رداء قصير وشرابات وصندل وجلس بجانبه وسأله هل انت عبده دهب؟ واجاب عبده دهب من انت؟ لعب هذا اللقاء دوراً هاماً وحاسماً في تغيير مجرى حياة عبده دهب حسنين للأبد.

نواصل.. ( الإفادات عن حياة عبده دهب مأخوذة من محضر مناقشة مع خالد عبده دهب)

٢٨ يونيو ٢٠٢٥

الوسوم  ياسر-عرمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*