الصين ليست عِهنًا منفوشًا… بل عقل القوة القادمة في نظام عالمي جديد

▪️ما كتبه اللواء (م) مازن محمد إسماعيل من تحليلٍ متماسكٍ وشديد العمق حول الحصار الأمريكي للصين وموقعها الجيوسياسي في خريطة الصراع العالمي، يمثل قراءةً تستحق التوقف عندها، غير أن النظرة إلى الصين بوصفها “عِهنًا منفوشًا” تُغفل الكثير من الحقائق البنيوية التي تؤكد أن الصين اليوم ليست الإمبراطورية الضعيفة التي غزاها الغرب في القرن التاسع عشر، بل هي المشروع الحضاري الأشد رسوخًا في التاريخ الحديث، وصاحبة التحول الأعمق في موازين القوة خلال المئة عام الأخيرة.
أولاً:- الصين لم تعد “دولة بلا سيف”
صحيح أن الصين ذات ثقافة إدارية مدنية الطابع، غير أن هذا لا يعني أنها تفتقر إلى القوة العسكرية الفاعلة. فالصين اليوم تمتلك ثاني أكبر ميزانية دفاع في العالم بعد الولايات المتحدة، تزيد على ٢٣٠ مليار دولار سنوياً، وتملك جيشًا قوامه أكثر من مليوني جندي، وأسطولًا بحريًا هو الأكبر عدداً في العالم.
لقد تحولت الصين من جيشٍ بريٍ كلاسيكي إلى قوةٍ بحريةٍ وصاروخيةٍ وفضائيةٍ متكاملة، تمتلك صواريخ فرط صوتية (Hypersonic Missiles) لا تملكها حتى الآن إلا هي وروسيا. كما دشنت ثلاث حاملات طائرات حديثة، وتعمل على تفعيل الجيش الإلكتروني الأكثر تطورًا في العالم، الذي يوازي حجمه وفاعليته كل الجيوش الإلكترونية الغربية مجتمعة.
إنها ليست دولة بلا سيف؛ بل دولة أعادت تعريف “السيف” ذاته في عصر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكوانتية والفضاء السيبراني.
ثانيًا:- الحصار لا يعني الضعف
القول بأن الولايات المتحدة تحاصر الصين صحيح من حيث الشكل، غير أن جوهر القوة لم يعد في الجغرافيا بل في التكنولوجيا والاقتصاد والبيانات.
لقد نجحت الصين في تحويل الحصار إلى فرصة لبناء الاكتفاء الذاتي الصناعي والتقني، فأنشأت منظومات بديلة لشبكات الغرب، مثل:
نظام الدفع الإلكتروني CIPS بديلًا عن SWIFT.
نظام الملاحة “بيدو” (Beidou) بديلًا عن GPS الأمريكي.
مشروع “الحزام والطريق” الذي يربط 152 دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا بشبكة من الموانئ والسكك الحديدية والممرات الاقتصادية.
هذا المشروع وحده جعل من الصين مركز الجاذبية الاقتصادي الجديد للعالم، وأعاد تشكيل الخرائط السياسية والمالية دون طلقة واحدة.
ثالثًا:- الصين قوة إيمانية بطريقتها
قد لا يكون الصينيون مؤمنين بالله وفق التصورات الدينية الإبراهيمية، لكن الفلسفة الكونفوشيوسية والطاوية التي تشكل وجدان المجتمع الصيني تقوم على قيم الانضباط، والواجب، والتضحية، والاتزان، والولاء للجماعة.
هذه القيم – وإن اختلفت جذورها عن الإيمان الديني – تؤدي ذات الدور الوظيفي في تماسك المجتمع واستعداده للعطاء والبذل من أجل الدولة.
فالمواطن الصيني، وإن كان “ابنًا واحدًا”، فهو جندي في دولةٍ تعتبر ملياراً وأربعمائة مليون نسمة بمثابة “العائلة الكبرى”.
وهذا ما يجعلهم أقرب إلى روح الأمة المنظمة، لا إلى مجتمعٍ متهالك بلا روابط كما يتصور البعض.
رابعًا:- التجربة القتالية ليست معيار الردع
غياب التجربة العسكرية المباشرة لا يعني ضعف القدرة القتالية.
فالقوة الحقيقية اليوم تُقاس بالردع الاستراتيجي لا بخوض الحروب.
لم تخض الولايات المتحدة حرباً كبرى منذ فيتنام، لكنها ظلت تردع خصومها.
والصين بالمثل، تبني قوتها على مفهوم “الردع الصامت” الذي يمنع الحرب من أصلها، مستندة إلى قدراتها النووية الهائلة، وإلى سياسة الضربة الثانية Second Strike التي تضمن بقاءها حتى بعد أي هجوم مفترض.
ولذلك، فالصين ليست بحاجة إلى خوض الحروب كي تُثبت قوتها، بل إلى تجنّبها من موقع القوة.
خامسًا:- التحالفات غير المعلنة
قد تبدو الصين بلا حلفٍ عسكري رسمي، لكنها تمتلك ما هو أخطر: شبكة مصالح ممتدة تشكّل تحالفًا اقتصاديًا واستراتيجيا عميقًا، منها:
منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم روسيا، الهند، باكستان، إيران، ودول آسيا الوسطى.
البريكس (BRICS) التي أصبحت منصة مالية بديلة للعالم النامي في مواجهة الدولار.
تحالفات الطاقة مع روسيا، وإيران، والسعودية، ودول أفريقيا.
هذه الشبكات الاقتصادية تخلق تحالفًا ناعماً قد يكون أكثر فاعلية من التحالفات العسكرية الصلبة، لأنها تُقيّد الغرب بالمصالح وتُضعف قدرته على المواجهة المباشرة.
سادسًا:- الداخل الصيني ليس هشًّا كما يُظن
رغم وجود التفاوتات الطبقية، فإن الصين استطاعت خلال ثلاثة عقود أن تنتشل أكثر من ٨٠٠ مليون مواطن من الفقر المدقع، وهي أعظم معجزة تنموية في التاريخ الإنساني الحديث.
النظام السياسي الصيني – رغم قسوته – يتمتع بشرعية الأداء، لا بشرعية الشعارات، وهو ما جعله يحتفظ بدعم شعبي يتجاوز ٨٥٪ بحسب مراكز الأبحاث الغربية نفسها.
أما ما يُذكر عن القهر السياسي، فهو في سياق دولةٍ ترى في الانضباط الجمعي شرط البقاء وسط عالمٍ فوضوي تقوده النزعة الفردانية الغربية.
سابعًا:- من “المصنع العالمي” إلى “العقل الصناعي للعالم”
الصين لم تعد مجرد “سوبرماركت” عالمي، بل تحولت إلى العقل الصناعي والتكنولوجي للكوكب.
هي الآن الدولة الأولى في الذكاء الاصطناعي، والطاقة الشمسية، وتصنيع السيارات الكهربائية، والروبوتات الصناعية، وأشباه الموصلات.
وقد تجاوزت الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع المسجلة سنويًا، وفي إنتاج الجامعات للبحوث العلمية التطبيقية.
ولذلك فإن الحديث عن تفكيك الصين أو تمزيقها يغفل حقيقة أن العالم نفسه أصبح معتمداً عليها اعتماداً عضوياً في كل سلاسل الإمداد من الميكروتشيب إلى الغذاء والدواء.
ثامنًا:- الحروب القادمة ليست بالسيوف ولا بالدبابات
▪️ الصراع القادم ليس صراع الجيوش، بل صراع البيانات والذكاء الاصطناعي والتحكم في المعرفة والطاقة.
وفي هذا الميدان تتقدم الصين بخطى هادئة ولكن ثابتة، وقد سبقت الغرب في دمج الذكاء الصناعي بالاقتصاد المدني والعسكري معًا.
من يملك الخوارزميات اليوم يملك الغد، والصين تمتلك “عقولاً رقمية” تبني عالمها بدلاً من أن تحرقه كما فعلت الحضارات الغربية مرارًا.
عصر التحولات الكبرى. ————————-
▪️العالم اليوم يشهد انتقال مركز الثقل الحضاري من الغرب إلى الشرق.
قد يبطئ الغرب هذا الانتقال عبر الحصار، لكنه لن يستطيع منعه.
فالتاريخ لا يُدار بالقواعد العسكرية وحدها، بل بالعقل، والصبر، والتراكم، والابتكار، وهي أدوات الصين الأثيرة.
الصين ليست عِهنًا منفوشًا، بل هي نسيج من حديدٍ وفكرٍ وحلمٍ طويل المدى، تتحرك في صمت لتعيد تعريف القوة على أسس جديدة، لا تقوم على الغزو، بل على البناء، ولا على الإبادة، بل على الإنتاج، ولا على الخطابة، بل على الفعل المستمر.
▪️ومهما اشتد الصراع، فإن ميزان العالم القادم سيشهد وجهاً جديداً للهيمنة…هيمنة من لا يُكثر الكلام… بل يُتقن الصنع.