مكي علي إدريس: رحل جسداً وسيبقى حيَّاً فكراً وعلماً وفناً

ما أجمل أن تكون في حضرة فنان باذخ جعل السودانيين على اختلاف انتماءاتهم يستمتعون بأغنية مترعة بالإيجابية والحنين.. “عديلة” التي يستشعر معانيها من لا يعرف النوبية لعظمة لحنها وملحنها، ويستمتع بالكلمة واللحن النوبيون لروعة كلماتها وكاتبها ولحنها وملحنها.. ما أجمل أن تكون في حضرة الفنان الشامل “شاعر ومطرب وملحن ورسام”، وفوق ذلك كله باحث جاد، وضع للنوبيين قاموسهم الذي سيحفظ لهم لغتهم، وظلَّ يعكف على كشف مزيد من خبايا هذه اللغة، التي أذاب أهلها الغازين من كل فج عميق، بفضل أمهم الكنداكة، التي تهضم كل اللغات مهما كان علوها، لتذوب فيها، ولا يبقى لسان إلا لسانها.
كان هذا شعورنا كلما التقيناه وجلسنا إليه، حتى كانت الحسرة تعتصر كثيرين منا، فيتساءلون: كيف تأخذنا الحياة بعيداً ولا نستمتع بكل لحظة ممكنة في حضرة هذا الرجل الاستثنائي؟
مكي علي إدريس هو من أعني، وأظن أي نوبي عرفه من غير أن أفصح عن اسمه، إنه فنان وباحث سيقف عنده التاريخ السوداني والنوبي طويلاً، وسيعكف الباحثون المهتمون بتاريخ السودان وحضارة النوبة لمعرفة سر عظمته، وليقفوا على عمق معارفه، وأصالة عطائه الذي لا يشبه أحداً غيره.
وقد عبرت عن صحبتي له، ونحن نتوجه في عام 2017م إلى جدة معاً، فقلت: “إذا كانت معرفتك بالإنسان تزداد في السفر، فما أروع أن يكون رفيقك مكي علي إدريس، إنسان في قمة التواضع والإنسانية، تشعر به نسمة رقيقة، فلا ضجر في أي موقف، ولا جزع من أجل مطلب، وهذا يجعل من يرافقه في وضع حرج، فإذا لم ينتبه إليه لن يسأل عن مأكل أو مشرب، فحساسيته أزيد من أي إنسان يمكن أن تعاشره.
قابلت فنانين عمالقة، فوجدت كثيرين منهم يرهقون من يرافقوهم بكثرة الطلبات والإلحاح على أشياء صغيرة، تجعلك تندم على الرفقة والمعرفة، أما مكي فيزداد احترامك له لزهده وتواضعه الطبيعيين من دون تكلف.
كان نجم حفل اليوم النوبي العالمي الذي أطلقه أستاذنا محمد سليمان ولياب – رحمه الله- تاركاً بصمة ستظل له وحده، وكان الاحتفال في جدة بتنظيم النوبي الأصيل الأستاذ رفعت نادر، النادر بحق، يا الله على النوبة المعطاءة، ما أن تأتي على اسم حتى تشعر أنه يستحق أن تقف عنده، وقد جمع النادر شخصيات نوبية قمة في الروعة أدباً وثقافة وإنسانية في ذلك الحفل، وددت لو أذكرها كلها، وهي من أسوان حتى دنقلا.
كان مكي نجم الحفل المفترض إلا أنَّه ظل يقدم الفنانين، وعندما صعد المسرح وضج الجمهور، امتلأ المسرح بالفنانين الذي رأوا أهمية نيل مشاركة هذا الهرم النوبي أغنياته الثورية.
“كجبار” الأغنية السلاح الذي حمله النوبيون في مناهضة السدود، حاضرة حتي في أفراحنا، وهي تمثل رسالة ليحملها إلى أصحاب الشأن، ليعرفوا كم يتمسك النوبيون بأرضهم، وكم هم مستعدون للتضحية من أجلها حتى لا تتكرر مأساة حلفا، الجرح النازف، مسقط رأس شريك مكي في وضع المعجم النوبي أخي الحبيب خليل عيسى خليل الرائع روعة حلفا، وأهلها، رحمك الله أيها الخليل”.
تداعينا لتكريم مكي ولعلاجه، ولكن لن نستطيع أن نوفيه ما كان يستحق من التقدير والعرفان، وضعنا في نوبيانا صورته على غلاف عدد نوبيانا الأخير تعبيراً عما له من مكانة في القلوب، وقد وجب علينا أن نشكر الله تعالى أن عشنا في زمنه، لنفاخر بذلك، فقد كان، وسيبقى مصدر فخر واعتزاز.
نرفع أكف الدعاء أن يرحمه الله ويتقبله قبولاً حسناً، وأن يجزيه خير الجزاء عما قدم لأهله ووطنه من عطاء صادق وإبداع أصيل، ليكتب اسمه في سجل الخالدين.
تعازينا لمحبيه وعارفي فضله، والدعاء بأن يطرح البركة في ذريته، والدعوة إلى ضرورة توجيه ما كان من دعم نعده لعلاجه إلى طباعة إنتاجه العلمي؛ لكي يرى النور، ليكون حيَّاً إلى أبد الدهر بعلمه وفكره وفنه.
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.