السودان على حافة الانهيار: كارثة إنسانية وصراع وجودي
لم يعد ما يجري في السودان مجرد أزمة عابرة أو فصلاً إضافياً في سلسلة الصراعات التي أنهكت البلاد؛ بل تحولت المأساة إلى كارثة إنسانية مكتملة الأركان تتسع رقعتها كل يوم، بينما تُرتكب انتهاكات مروعة في الظل بعيداً عن أعين العالم. ومن الفاشر إلى كردفان المهددة بالتمدّد العسكري، يعيش ملايين المدنيين بين الجوع والخوف والعنف، في ظل تعتيم ممنهج يحجب الحقيقة ويُطيل أمد النزيف. ومع صدور بيان مجلس حقوق الإنسان، عاد الضوء ليكشف ما حاولت الحرب طمسه، وليطرح الأسئلة الأكثر إلحاحاً: إلى أي مدى يمكن لهذا الصمت الدولي أن يستمر؟ وما الثمن الإنساني الذي سيدفعه السودانيون قبل أن يتحرك العالم؟ وما هو دور السودانيين في مواجهة ما يحدث في بلادهم؟.
وفي خضم تعمّق الكارثة الإنسانية واتساع دائرة الانتهاكات، تبنّى أعضاء مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يوم الجمعة قراراً يقضي بإيفاد بعثة مستقلة لتقصي الحقائق بشأن عمليات القتل الجماعي التي تم الإبلاغ عنها في الفاشر. ودعا بيان المجلس إلى تحقيق دولي عاجل ومستقل في الجرائم المرتكبة في الفاشر وعموم دارفور، إضافة إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار، وفتح ممرات إنسانية آمنة دون عوائق، والسماح للمدنيين المحاصرين بالخروج بأمان، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات بما يشمل الإحالة إلى الآليات الدولية. وقد تم اعتماد القرار دون تصويت، في إشارة قوية إلى توافق دولي واسع.
وتتزامن هذه التطورات مع مخاوف من انتقال القتال بصورة أعنف إلى إقليم كردفان، في ظل التحشيد المكثف لقوات الجيش وقواته المتحالفة، مقابل انتشار قوات الدعم السريع التي تحاصر، إلى جانب الأبيض، مدينة بابنوسة في غرب كردفان، ومدينتي كادوقلي والدلنج في جنوب كردفان، ما يشير إلى احتمال تصاعد جديد للقتال.
وقد زاد ما حدث في الفاشر، وما يلوح من مخاطر امتداد الصراع إلى كردفان، من القلق الدولي بشأن الكارثة الإنسانية. ففي تصريحاته على هامش قمة مجموعة السبع، أبدى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو نبرة أكثر تشدداً تجاه ضرورة إنهاء الحرب، ودعا إلى اتخاذ خطوات لوقف تدفق الأسلحة والدعم إلى قوات الدعم السريع، محذراً من تحول السودان إلى “بؤرة لنشاط إرهابي”. من جانبه، قال نائب المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي، كارل سكاو، إنهم غاضبون من الفظائع التي شهدتها الفاشر، وإن إجراءات عاجلة مطلوبة لمنع تكرارها في مناطق أخرى.
كما حذر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من انعدام حاد في الأمن الغذائي، مشيراً إلى أن الصراع في السودان خلق واحدة من أخطر أزمات حقوق الإنسان وأكبر حالات الطوارئ الإنسانية في العالم. وفي السياق ذاته، كشفت هيئة الأمم المتحدة للمرأة عن شهادات مروعة لنساء نازحات من الفاشر تحدثن عن عمليات قتل واغتصاب ممنهجة وخطف أطفال، مؤكدة استخدام الاغتصاب كسلاح حرب. بدوره، أدان مجلس الأمن الدولي هجوم قوات الدعم السريع على الفاشر، محذراً من أثره المدمر على المدنيين، وأعرب عن قلقه البالغ إزاء التقارير الواردة من المدينة، مؤكداً أن الوضع الإنساني بلغ مرحلة خطيرة بعد مقتل مئات المدنيين. ووفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوشا)، فإن أكثر من 30 مليون سوداني يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، بينما يواجه 24.6 مليون شخص مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 3.7 مليون طفل دون الخامسة ونساء حوامل ومرضعات يحتاجون إلى علاج من سوء التغذية الحاد. وأكدت أربع وكالات أممية—المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، واليونيسف، وبرنامج الغذاء العالمي—أن السودان يواجه إحدى أخطر الأزمات الإنسانية في العالم. وقدّرت تقارير أممية وإعلامية خسائر الحرب الاقتصادية بنحو 200 مليار دولار، والخسائر البشرية بمئات الآلاف من القتلى والجرحى، إضافة إلى دمار نحو 60% من البنية التحتية، وتشريد ما يقارب ثلث السكان بين نازح ولاجئ. ووصف الاتحاد الأوروبي الكارثة الإنسانية في السودان بأنها الأسوأ في القرن الحادي والعشرين. ويعقّد نقص التمويل وصعوبة الوصول إلى المناطق المتضررة—بسبب القتال المستمر—كل عمليات الإغاثة، ما يجعل الاستجابة الإنسانية محفوفة بالمخاطر. وتشير خطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية لعام 2025 إلى الحاجة لـ4.2 مليار دولار لتلبية احتياجات نحو 21 مليون سوداني، لم يُؤمَّن منها سوى ربع المبلغ، ما يعطل جهود الإغاثة ويهدد حياة الملايين. كما أكدت هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية أن المدنيين يتعرضون لعمليات تجويع ممنهج وهجمات واسعة على الأحياء السكنية، وأن وصول المساعدات يُعرقل عمداً. وطالبت المنظمتان مجلس الأمن باتخاذ خطوات عاجلة لوقف العنف ورفع الحصار وتوفير حماية دولية للمدنيين. وصدر تحذير مشابه عن المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان، التي وصفت التجويع المتعمد وعرقلة الإغاثة بأنهما جريمة حرب مكتملة الأركان.
وفي خضم هذا الواقع الكارثي، تتواصل الانتهاكات والجرائم الجسيمة، من قتل عشوائي واغتصاب واعتقالات قسرية ونهب للممتلكات، وسط غياب تام للحماية القانونية والإنسانية. ويتحمل الأطفال والنساء العبء الأكبر من هذه المأساة، إذ يُحرم ملايين الأطفال من التعليم والرعاية، بينما تواجه النساء مختلف أشكال العنف في بيئة يغيب فيها الأمان وتسودها الفوضى.
ورغم فداحة الوضع، يواجه السودان تعتيماً إعلامياً مقلقاً سلب الضحايا صوتهم ومنع العالم من رؤية الحقيقة. فغياب التغطية العادلة وتسليح المعلومات يطيلان أمد المعاناة ويقللان الضغط الدولي المطلوب لوقف النزاع وإنقاذ المدنيين. لا تكمن خطورة التعتيم في إخفاء الانتهاكات فحسب، بل في السماح باستمرارها دون مساءلة؛ فتعطيل الاتصالات ومنع الإعلام والمنظمات الإنسانية، وتهديد الشهود، كلها أدوات لطمس الحقائق. وفي غياب المعلومات، تصبح الاستجابة الإنسانية كمن يتحرك في ظلام تام.
ولا يقتصر الأمر على التعتيم؛ إذ أصبح خطاب الكراهية أداة أساسية في إنتاج العنف وتوسيعه، محوّلاً الصراع من نزاع سياسي إلى صراع وجودي يعمّق الانقسامات ويُسبغ على الجرائم طابعاً أخلاقياً زائفاً، حيث بات القتل والاعتداء يُبرَّران بحجة الدفاع عن الهوية. وقد مهد خطاب الكراهية لجرائم عرقية ممنهجة تنذر بنقل البلاد إلى مرحلة حرب إثنية شاملة.
وفيما يقف العالم موقف المتفرج، رغم الإدانات واستشعار حجم الخطر، يقف السودان على حافة الانهيار الإنساني الكامل. فالتهاون في مواجهة هذه الكارثة بخطوات صارمة لا يعد فشلاً سياسياً فحسب، بل تقصيراً أخلاقياً بحق الإنسانية جمعاء. يعيد بيان مجلس حقوق الإنسان سؤالاً جوهرياً: هل ستتجاوز هذه الإدانة حدود اللغة الدبلوماسية إلى إجراءات عملية؟ أم سيظل السودان يدفع ثمن حرب بلا نهاية وسط تجاهل دولي وصمت مفروض بقوة السلاح؟.
يمثل البيان اعترافاً رسمياً بحجم المعاناة، وتأكيداً أن طريق العدالة يبدأ بكشف الحقيقة، وأن تطبيق القانون الدولي الإنساني واتخاذ تدابير لحماية المدنيين والأعيان المدنية ضرورة لا تحتمل التأجيل. فالسودان لا يواجه مجرد أزمة إنسانية، بل تدميراً ممنهجاً لمجتمع كامل. ويظل بيان مجلس حقوق الإنسان خطوة مهمة، لكنها تظل بحاجة إلى إرادة سياسية تُحوّل الكلمات إلى حماية فعلية.
وفي ظل هذا الانهيار المتسارع، لا يمكن تجاهل أن جانباً كبيراً من تفاقم المأساة يعود إلى غياب الإرادة الوطنية وهشاشة مؤسسات الدولة، إلى جانب انعدام المبادرة لدى أصحاب المصلحة والاكتفاء بالمشاهدة والانتظار أمام ما يجري في البلاد. فالانقسام الاجتماعي والاستقطاب السياسي زادا من هشاشة المجتمع ومن ضعف الاستجابة الإنسانية، رغم أن هناك الكثير مما يمكن إنجازه داخلياً ليتكامل مع الجهد الدولي. وفي غياب الحكومة وتقاعس مؤسسات الدولة، يصبح الرهان على إعادة صياغة دور المجتمع المدني – بمفهومه الواسع – ضرورة لا ترفاً. فالمجتمع المدني يمكن أن يكون الرافعة الأساسية في عمليات مسح الاحتياجات الإنسانية، وتحديد الاستجابات الطارئة، والرقابة على توزيع المساعدات، والمساهمة في رسم السياسات الإغاثية وخطط التعافي المجتمعي. كما يملك القدرة على تعزيز الوعي المدني، ومواجهة خطاب الكراهية، ورصد الانتهاكات، وتنظيم حملات المناصرة والتضامن. هذه الأدوار مجتمعة يمكن أن تعيد الثقة في المنظمات المحلية وتشجع الجهات المانحة والمنظمات الدولية على توسيع نطاق العمل الإغاثي والخدمي والتنموي، لكنها جميعاً تتطلب تمكيناً فعلياً للمجتمع المدني وتطويراً لقدراته بعد أن تراجع كثيراً عن دوره الإنساني والتنموي خلال السنوات الماضية.
تُظهر هذه الكارثة، بما تحمله من دروس قاسية، أن المرحلة الحالية تتجاوز مجرد التعليق على الأحداث أو الانتظار السلبي؛ فهي تتطلب تشكيل كتلة حرجة من القوى السياسية والمجتمعية قادرة على إنهاء الحرب وفتح طريق السلام. إن الحوار الوطني على مائدة مستديرة لم يعد رفاهية، بل ضرورة عاجلة لمنع انزلاق البلاد نحو سيناريوهات التقسيم، وإعادة بناء توافق وطني يستند إلى مشروع جامع وعقد اجتماعي جديد يعالج جذور الأزمة ويعيد للدولة وظيفتها وشرعيتها.
تكشف الوقائع المتراكمة أنّ السودان يقف اليوم على حافة انهيار إنساني غير مسبوق، حيث تتداخل أربعة مسارات: كارثة إنسانية تتسع، حيث يقبع ملايين المدنيين تحت الحصار، نقص حاد في الغذاء والدواء، وانهيار شبه كامل للخدمات الأساسية. وانتهاكات ممنهجة وبُعد عرقي متصاعد نتيجة عمليات قتل جماعي، اغتصاب ممنهج، تجويع قسري، واعتداءات على الهوية، في ظل بيئة يغذيها خطاب كراهية يحول الصراع من حرب سياسية إلى نزاع وجودي. وغياب الاستجابة الدولية الفاعلة رغم الإدانات الواسعة، لا تزال الأدوات العملية لحماية المدنيين غائبة، بينما يعمّق التعتيم الإعلامي عزلة الضحايا ويمنح مرتكبي الانتهاكات مساحة أكبر للإفلات من العقاب. وتقاعس وطني شديد وضعف مؤسسات الدولة وانقسامات القوى السياسية والاجتماعية ساهمت في تفاقم الأزمة، ما يهدد البلاد بالانقسام والتشظي.


