وداعاً… أيتها الشيوعية العزيزة

وداعاً… أيتها الشيوعية العزيزة
  • 27 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

صديق عبد الهادي 

 (1)

جاءت مذكرات الشاعر الشيلي المشهور “بابلو نيرودا” بين ضفتي سفر ضخم، تحت عنوان “اعترف بأنني قد عشت”، وكعادة كتَّاب امريكا اللاتينية ومبدعيها حين يكتبون، فهم يكتبون بجموحٍ وطلاقةِ خيالٍ بليغين، ويشفون الغليل بإيجازٍ من القول المحكم. يتماهون، وكأن الواحد منهم، وفي سيرته لا يكتب عن نفسه وإنما عن الناس، كل الناس، وليس عن وطنٍ واحدٍ وانما عن كل الأوطان! ولذكرى الأبطال والشهداء والمناضلين والمناضلات، في تلك الكتابات، ضوعٌ زاكي، وكأنك بهم يسعون خفافاً بين السطور!

توقف “نيرودا” عند ذكرى صديقه الشاعر الإسباني المعروف “غارسيا لوركا”، المغدور غيلةً. وقف وهو ملفوفٌ بالحزن وبضرورة ان يقول للعالم من هو “لوركا”؟، وقد قالها، وكأبلغ ما يكون القول وأكمله:

“وأي شاعرٍ…. كان لامعاً ونبيلاً، كان خلاصة إسبانيا وعهودها”…ويا لها من عبارةٍ خالدة!…

إنها واحدةٌ من العبارات القلائل التي تسمو، وعند هذا المقام، لان تقال في وداع “فاطنة”، لأنها كانت، وبالفعل، “خلاصة كل العهود الجميلة في تاريخنا”!

(2)

لكل بلدٍ في العالم آباءٌ مؤسسون وأمهاتٌ مؤسسات، صاغوا جوانب مختلفة من تاريخه، ومن حيوات شعوبه. فبلاد السودان ليست باستثناء، ولم تكن سيرتنا الحديثة منبتة، وإنما لنا كذلك آباؤنا المؤسسون وأمهاتنا. وكلما يأتي الذكر على ذلك يحلَق الشيخ بابكر بدري عالياً، قنديلاً وضاءاً في سماء ومسيرة استنارتنا، حيث تجرأ على الواقع الاجتماعي بجسارة غير معهودة في زمنٍ غير معهودٍ، وبل مغاير!، وهو نفس المقاتل الذي ودع القرن التاسع عشر، وهو خارج من تحت غبار تلك الحملة “التاريخية”، التي انتهت بنهاية واقعة توشكي الأليمة، في  3 اغسطس 1889م. والتي كتب هو نفسه مؤرخاً وللحظاتٍ فاصلةٍ منها، “جيء بجنازة ود النجومي لنا في الاسر، وعُرِضت للتأكد من شخصيته ومما ظهر لنا بجسمه ضربة جلْفَّة، في ساقه لأنه كان لابساً جبَّتَه، والغبار بلحيته الجميلة كان يبدو وكأنه راجعٌ من العَرْضَة ولم تظهر عليه كآبة الموت، رحمه الله رحمةً واسعة. وقد قال شاعرهم بعد موت ود النجومي شعراً كثيراً…. ولا تسأل عما اصابه هذا الشعر في نفوسنا ولو كنا نستطيع دفاعاً أو إجابة ما تأخرنا”.

هذا المقاتل المهدوي، والذي لم نعطه حقه بعد، كأبٍ مؤسس، كان له سهماً عريضاً في تعبيد الطريق لمسيرة الاستنارة في السودان.

كتب الشيخ بابكر ذات مرة، قائلاً، “قضيت باقي الأيام بالمدرسة وفي يوم الأربعاء، وكان وقفة عيد الأضحى، عبرت النيل لأمدرمان حيث قضيت العيد بمنزلي. وهناك اجتمعت بصديقي الحميم محمد أحمد فضل، الذي كان يعمل مدرساً بكتَّاب أمدرمان، التي فتحت في أول عهدها (عام 1899) في دكاكين العمدة السيد العوض”. فهذا الصديق الحميم الذي اصطفاه شيخ بابكر، وخصه بالذكر هو جد المناضلة “فاطنة أحمد إبراهيم” لأمها. ولطالما عبرت عن فخرها وإعزازها به. لم تكن الصداقة وحدها هي التي جمعتْ بينهما، وإنما جرأة الفعل والاجتهاد. كلاهما انحازا لتعليم المرأة في زمنِ جمودٍ، أقل ما يُقال بانه آسن!، على حد قول الراحل “نقد”، وبتلك اللفتة الناجزة الآسرة!

ما عمل الآباء المؤسسون لاستنارتنا، ولا عملتْ “فاطنة” لرفعة المرأة لوحدها دون الرجل، وإنما لرفعة الكل معاً. يحسب الكثيرون بأن الشيخ بابكر أسس وكرَّس لتعليم المرأة فقط. فذلك حسبانٌ قاصرٌ وخاطئٌ. فللشيخ بابكر دينٌ في أعناق الرجال قبل النساء. والكل مندرج في “قيد” و”جردة” ذلك “الحساب”، أي نعم، مثلنا وعشرات الآلاف من أبناء غرب الجزيرة، “وفي آخر هذه السنة – أي 1907م (الكاتب)- طلبت مني مصلحة المعارف ترشيح أحد معلمي رفاعة، ليكون ناظراً لمدرسة المناقل، التي تمَّ فتحها في ذلك الوقت، فرشحت الشيخ عبد الغفار فاُعطِيَّ مرتباً قدره أربعة جنيهات”. فهكذا كان ممتداً فضله، وعلى كل الأنحاء.

هذا هو الإرث الذي أنتج المناضلة “فاطنة”، لتحمل الشعلة التي أوقدها هؤلاء النفر من الآباء المؤسسين، ولترتقي بها هي إلى مدارجٍ عُلا وشاهقة، بدءاً بتوطيد ذلك الحق في التعليم، وفي العمل والأجر المتساوي، وفي الترشح والتصويت. فهذا المدى الباهر، الذي تحقق واقعاً لا حُلماً، لاشك، أنه مما كان يسعد أولئك المؤسسين الميامين، وهم يخلدون في مراقدهم الأبدية، تلك.

(3)

نحن جيل الشيوعيين الذين لم يعاصروا الصعود المبهر لنجم “فاطنة” وهي تتقدم المعركة الحقوقية للنساء، حتى حققت حركتهن تلك الانتصارات البائنة، إبان الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، إلا أننا، وبتأكيدٍ قاطع، شهدنا خطوها الثابت وسموها من فوق الجراح، فيما بعد يوليو 1971م، جراحها الخاصة والعامة. لم تتراجع قط، بل انها ظلتْ شامخة ومرفوعة الرأس.

عملتُ مع المناضلة فاطمة وعن قرب، إبان انتفاضة مارس/ أبريل 85م، وتلك كانت واحدة من نعم الدنيا على المرء. عملنا سوياً في التجمع الوطني، بشقيه الحزبي والنقابي. جاءت اليه هي ممثلة للاتحاد النسائي، أما شخصي فقد جئتُ وصديقي عبد العزيز أحمد دفع الله عن لجنة التجمع النقابي ممثلين لنقابة شركة التأمينات العامة، التي كانت واحدة من النقابات الستة، التي وقعت ميثاق الانتفاضة إلى جانب نقابة المحامين والمهندسين وأساتذة جامعة الخرطوم والمصارف واتحاد طلاب جامعة الخرطوم.

غير أنها كانت محل احترام الجميع، كان في وجود “فاطنة” قدر كبير من التوازن. وبرغم حزبيتها كانت ذات رأي مستقل، تصدح بالحقيقة دونما مواربة، وليس في بالها لمعايير الربح والخسارة مكان، فهي دائماً كما هي، كالسيف إزاء الحق أينما مال! وقد يذكر كلٌ منْ عاصر الأيام الأولى للانتفاضة صرختها المدوية أمام نادي الاساتذة، ومن ثم امام القيادة العامة بـ “ألا يتوقف الناس عن التظاهر” حتى يتبع حل جهاز الأمن إلغاء كافة القوانين المقيد والمصادرة للحريات، والتي من ضمنها قوانين سبتمبر 83 المهينة، إلا أن صرختها الصائبة راحت أدراج الفرح العارم للناس، وهم يرون أركان الديكتاتورية تتهاوى أمام أعينهم!، غير أنه من باب الغفلة يأتي الخطر…وقد حدث!

(4)

كان قلبها الطيب هو جسر عبور الآخرين إليها، لا تفرق بين الناس في تعاملها، كانت تتعامل مع النقابيين بودٍ بائن، وبرغم مبدئيتها لم يكن الانتماء السياسي أحد معاييرها في التواصل. كان زملاؤنا في التجمع النقابي يكنون لها محبة عميقة، وخاصة المخضرمين منهم من تلك النخبة من قادة العمل النقابي، من أمثال دكتور مامون محمد حسين، دكتور خالد ياجي، مهندس عوض الكريم محمد أحمد، حسن محمد علي، دكتور جلال الدين الطيب وغيرهم. يكنون تلك المحبة الصادقة لأنهم شهدوا، وفي يومٍ مضى، “فاطنة” والشفيع وهما يضعان أجمل نجمتين مضيئتين من حبٍ وتفان على صدر هذا الوطن!

طلبتُ، وفي تلك الأيام، من “فاطنة”، وبحكم العلاقة التي توطدت بيننا، بأن تشرفنا بزيارة إلى قرية العقدة في غرب الجزيرة. لم تتردد لحظة وما زلت أذكر ردها، “طوالي، ياخي ديل الناس البستحقوا أننا نمشي ليهم”! إن كان هناك من شيء، لي أن أفخر به في حياتي هو تلبيتها الكريمة لدعوتي المتواضعة تلك، وكذلك الرحلة التي قمنا بها سوياً وفي الرفقة الطيبة للصديق الشهم عبد الرؤوف العوض، والرفيقة نعمات كوكو.

كان استقبال أهل القرية لها مشهوداً، وسيظل ذلك اللقاء محفوراً في ذاكرة الناس، ما بقي الناس على وجه هذه الأرض!

وأهل العقدة يستحقون أن تكون بينهم “فاطنة”، وقد كان بينهم آخرون، الشاعر الراحل حميد، الذي احتضنوه بدفيء وحماسٍ صادقين، وقصائده ما فتأ يتردد في سماء القرية رجع صداها! إنه، ولسرٍ يعلمه الله، أن أهل العقدة، مسكونون بـ “حب المعرفة” وبـ “التقدم” وبـ “الجهر بالحق”، خاصةً وقت يكون الصمت هو الملاذ الوحيد، والبديل الذي لا غيره لمنْ يأثر السلامة! فهم مجبولون على شد الأزر، ومجابهة الظلم والسلطان، أي سلطان، كما وأن لهم في كل انتماء وطني عريقٍ بحق، عرقٌ راسخٌ وقديم!

(5)

على نهاية العام 1993م قدِمتْ “فاطنة” إلى الولايات المتحدة الامريكية، رئيسة وممثلة للاتحاد النسائي السوداني لاستلام الجائزة المقدمة له من الأمم المتحدة. أكرمتني وأسرتي بزيارة إمتدت قرابة الأسبوع. وكان عليَّ ان أصطحبها من مدينة واشنطن إلى مدينة فلادلفيا. التقيت بها في منزل الاستاذ آدم محمد عبد المولى، المحامي، وفي معيتها عددٌ من السودانيين والسودانيات، حيث أنها كانت محط تبجيلهم وإهتمامهم. لا سعادة البتة أكبر من أن يقطع المرء رحلة تقارب المئتين كيلو متر في رفقة أعظم نساء العالم، بحقٍ وحقيقة! فإنك لا تسمع لغواً او انحداراً، لا في مفردةٍ ولا جملة.  وأما أن تكون معك وأسرتك تحت سقفٍ واحد، ولو ليومٍ فقط، فذلك أمرٌ آخر وفضلٌ من أفضال الدنيا عليك!

“فاطنة” دموعها، وكما يشهد كل العالم، على طرف عينيها، فحينما تذكر اخاها صلاح، الشاعر الفذ، تذرف دموعها، وحين تطوف بالخاطر ذكرى أختها التومة تترى دموعها، ولو طاف بؤس الاطفال في خيالها تنهمر كذلك دموعها!، حتى أن صرامتها التي عجمتها الإحن تعجز عن حبسها!

“فاطنة”، عن صدق، تعطي للدموع معنى لأنها وحين تذرفها تدلق شيئاً من القلب معها! إنها لطيفة المعشر، مصقولة التهذيب. رفيعة النفس ومهابة حين تثور. إنها إمرأةٌ تثير التأمل والدهشة وهي تخطر، مما يجعل المرء يتساءل، كيف تسنى لهذه الخطى الوئيدة ولهذا الجسم النحيل أن يحملا تلك الروح “العاصفة” ويتحملاها عبر كل هذه السنين؟!…لا شيء، إنها قوة الإرادة، و”فاطنة” إمرأة ذات إرادة لا تضاهى!

(6)

رتبنا لها لقاء تلفزيوني مع صديقتنا الجنوب افريقية، “بورشيا أكسنجيمالو”، مقدمة برنامج “فوكاس اون آفريكا” على قناة “دبليو واي بي إيي” العامة، بمدينة فلادلفيا. كان المهاجرون الأفارقة وقتها منغمسين في نشاط واسع وكبير لأجل دعم حملة ترشح الزعيم مانديلا للرئاسة في جنوب أفريقيا، وكانت صديقتنا “بورشيا” من المنظمين الأساسيين، مما شغلها عن إخطارنا بتأجيل موعد الإعداد لحلقة الاستضافة. تقبلتْ “فاطنة” الأمر الواقع، ولكنها أعطتْ صديقتنا “بورشيا” درساً في الانضباط والاهتمام، سيبقى معها طيلة حياتها!. ونحن في الطريق قالت لي، “البت دي شغلها ملكلك”! ولكن تمَّ تنفيذ تلك الحلقة. تمَّ تسجيل الحلقة في جامعة دريكسل بمدينة فلادلفيا، وهي جامعة كبيرة ومعروفة. وقد كانت الحلقة في غاية النجاح، حيث قامت القناة التلفزيونية ببثها، ولعديدٍ من المرات. قد تكون تلك هي المرة الأولى، على الإطلاق،  ان تتم استضافة ناشطة أو ناشط سياسي سوداني ليعرض لقضايا سياسية سودانية، ليتعرف عليها المشاهد في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة بعد الانقلاب العسكري للحركة الاسلامية واستيلائها على السلطة بواسطته في 30 يونيو 1989م.

في النصف الثاني من التسعينات وزعت الامم المتحدة بوستراً جميلاً، لامعاً وملفتاً، يحمل صورة معبرة لـ “فاطنة”، وهي في ثوبها الابيض الأنيق المعروف. كانت فيه أشبه بقديسة، وقد امتلأت بذلك البوستر كل محطات القطارات والمواقع المختلفة في مدينة فلادلفيا. كان بوستراً شهيراً. كنا، نحن السودانيون، نمتلئ بالفخر والإعزاز كلما مررنا به، خاصة عندما نرى المارة الآخرين يتوقفون عنده، وهم ينظرون اليه بشيء من الاعجاب الممزوج بالتبجيل. الناس في هذه البلاد يعشقون الجمال، وصورة “فاطنة” في ذلك الإطار المتميز لم تكن بأقل من ذلك.

ستظل زيارة “فاطنة” لمدينة فلادلفيا عالقة بالذاكرة، وبشكلٍ خاص من بين كل الزيارات التي قام بها قادة وساسة ونشطاء سودانيون آخرون. مدينة فلادلفيا جاذبة، وذلك معروفٌ عنها ومنذ زمنٍ طويل. توقفتْ عندها سعاد ابراهيم أحمد، وتوقف الخاتم عدلان وسيد أحمد الحسين، وفرانسيس دينق وعلي محمود حسنين ونعمات مالك، وآخرون غيرهم. وحتى “كارل ماركس”، كان من المفترض حضوره إلى مدينة فلادلفيا لتشريف المؤتمر السادس والأخير للأممية الأولى المنعقد فيها، في يوم 15 يوليو 1876م، والذي تمَّ فيه رسمياً تشييع الأممية إلى مثواها الأخير. نعم، لم يكن ماركس من ضمن الحضور ولكنه عمل بحماسٍ وبتحريض لأجل وضع المسمار الأخير في نعش تلك المنظمة!.

(7)

خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة/

إنه، وبقدر ما أننا معتزون بـ”فاطنة” فنحن ممتنون لتضحياتها النوعية الجسيمة، التي أخذت كل عمرها، وبكل ما يعنيه العمر من معنى، ولا نقول أنضر سنواتها، لأن ذلك تعبيرٌ مبتسرٌ خطِل، ودون مقام حياتها الاستثنائية!

شكراً لها، وللمكتسبات الحقوقية والسياسية والاجتماعية التي كان لها فيها سهمٌ نضر، والتي لولاها لكان هذا الوطن يقف الآن على ساقٍ واحدة، ويرى بعينٍ واحدة، بل وأنه قد لا يسمع ولا يحس!

نحن فخورون بأن شيعها السودانيون وحزبها بالقدر الذي يليق بها، إحتفاءاً بحياتها. وعزاؤنا الأكبر أنها عاشتْ الحياة وكما ينبغي.

فوداعاً لهذه المرأة العزيزة، ولتخلد روحها الطيبة في سلام.

*الكاتب: خبير اقتصادي في الولايات المتحدة

Siddiq01@gmail.com

 

التعليقات مغلقة.