مقتطفات من مذكرات حاكم عام السودان جيفري آرشر عن أيامه بالسودان: زيارة الجزيرة أبا

مقتطفات من مذكرات حاكم عام السودان جيفري آرشر عن أيامه بالسودان: زيارة الجزيرة أبا
  • 25 مارس 2024
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د.بدرالدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لشذرات قليلة من مذكرات السير جيفري آرشر (1882 – 1964م)، الذي شغل منصب حاكم عام السودان لفترة قصيرة (من يناير 1925 – يوليو 1926م)، بعد أن كان يحكم أوغندا لفترة بلغت أكثر من ثلاثة أعوام. نُشرت تلك المذكرات في كتاب صدر عام 1963م بعنوان: مذكرات شخصية وتاريخية لحاكم على شرق أفريقيا Personal and Historical memories of an East African Administrator”.
وتناول المؤلف في فصلين من الكتاب حادثة اغتيال حلكم عام السودان، السير لي استاك في القاهرة، وما أفضت إليه في مصر والسودان من إجراءات مؤثرة. وتناول أيضا زيارته للجزيرة أبا، التي قد تكون– ضمن أسباب أخرى – هي ما دعا الحكومة البريطانية لتطلب منه تقديم استقالته (لمزيد من التفصيل في هذا الأمر يمكن النظر في مقال المؤرخ مارتن دالي عن تلك الاستقالة https://shorturl.at/czM28 ).
المترجم


1/ اُغْتِيلَ الفريق سير لي استاك حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري (الذي خلف وينجت في حكم السودان) بأحد شوارع القاهرة يوم 19 نوفمبر 1924م على يد طالب مخبول مدمن على المخدرات. ولم يكن وراء تلك الجريمة أي دافع شخصي أو حتى تظلم متخيل، بل كانت جريمة قتل سياسي أقترفها شخص متعصب تحت ضغط عاطفة سياسية أشعلت أوارها حملة عارمة مُستَفحِلة ضد بريطانيا كان يقودها في ذلك الوقت متطرف قومي هو سعد زغلول، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزارة المصرية. كان لي استاك رجلاً رقيقاً وعطوفا ولم يكن لديه عدو في هذا العالم، وكان صديقاً للمصريين العاملين بالسودان، الذي لم يكن لهم فيه الكثير من الأصدقاء.
وبعد 24 ساعة على وفاته قام اللورد اللنبي، المفوض السامي في مصر، بصياغة مسودة للعقوبات التي ينبغي أن تُفْرَض على مصر، وبعث بها لوزير الخارجية البريطانية للموافقة عليها، واشترط على الوزير أن يبعث له بتوجيهاته حول تلك المسودة في أو قبل منتصف يوم 22 نوفمبر (يوم تشييع الجُثْمان). ونقل اللنبي للوزارة المصرية في رسالته تلك موقف بريطانيا من تلك الجريمة، وهو أن مصر هي المسؤولة عنها، حيث أنها شجعت على قيام حملة عنيفة معادية لحقوق بريطانيا والبريطانيين عموما في مصر والسودان، في نكران وجحود بَيْن لما قدمته لها بريطانيا العظمى. وذَكَّرَ اللنبي الحكومة المصرية بأنه كان قد حذرها مرارا وتكرارا من مغبة نتائج مثل تلك الحملة، خاصة على السودان. وسمحت الحكومة المصرية باغتيال حاكم عام السودان على أراضيها، وبذا أثبتت أنها ليست بقادرة على حماية حياة الأجانب. وأورد اللنبي مطالب حكومة جلالة الملك من مصر التي شملت:
1/ تقديم اعتذار كافٍ عن تلك الجريمة
2/القبض على من ارتكب (أو ارتكبوا) الجريمة وتقديمهم للمحاكمة العاجلة، بغض النظر عن أعمارهم، وإيقاع عقوبة عادلة عليهم.
3/ منع وتحريم كل المظاهرات السياسية الشعبية.
4/ دفع غرامة قدرها نصف مليون جنيه إسترليني على الفَوْر لحكومة جلالة الملك.
5/ سحب جميع الضباط المصريين والوحدات العسكرية المصرية في الجيش من السودان في غضون 24 ساعة.
6/ ستتولى حكومة السودان إخطار الأقسام المعنية بزيادة المساحات المروية في الجزيرة من 300,000 فدان إلى مساحة غير محددة، كلما دعت الحاجة لذلك.
7/ إزالة كافة القيود (في نواحي محددة ستحدد فيما بعد) المضادة لرغبات حكومة جلالة الملك فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية في مصر.
وإن فشلت مصر في الالتزام بكل ما ذُكِرَ من مطالب، فسوف تقوم حكومة جلالة الملك فوراً باتخاذ ما يلزم من إجراءات للحفاظ على مصالحها في مصر والسودان.


2/ وثار جدال مطول في مجلس الوزراء البريطاني حول تسويغ، أو على الأقل استصواب، بعض المطالب الذي ذكرها اللنبي في ذلك الإنذار، التي قد يصعب تبريرها من وجهة النظر العالمية. ولهذا السبب لم يبعث مجلس الوزراء البريطاني برده إلى اللنبي في مصر إلا بعد فوات الموعد الذي حدده هو للمجلس. غير أن اللنبي كان مصمماً على تقديم مطالبه بنفسه إلى سعد زغلول، الذي كان اللنبي يدرك بأنه سوف يقدم استقالته من رئاسة الحكومة المصرية على أية حال، ويدع شخصاً آخر يجابه ذلك الاعصار. وكان من المقرر أن يجتمع البرلمان المصري عند الساعة الخامسة مساءً، وكان اللنبي مصراً على أن يسلم بنفسه مذكرة المطالب البريطانية لسعد زغلول قبل بدء جلسة البرلمان. وعند الساعة الرابعة والربع استلم اللنبي، وهو يتأهب للذهاب لمقابلة زغلول، برقية مشفرة من لندن تحوي رد الحكومة البريطانية على ما أرسله لها اللنبي. تجاهل اللنبي البرقية متعللا بأن فك شفرتها سيستغرق وقتاً طويلا، ومضى في تنفيذ ما كان قد خطط له سلفاً. سار اللنبي في موكب ضخم يحيط به جنود الفرقة 16 لانسر، وهو يرتدي سترة منزل lounge suit قديمة (وكأنه يقصد التعبير عن امتعاضه واحتقاره)، ودلف إلى دار سعد زغلول مزهواً وسط أصوات أبواق الموسيقى العسكرية. قرأ اللنبي أمام سعد زغلول نص إنذاره باللغة الإنجليزية، وسلمه ترجمة فرنسية لذلك الإنذار، واستدار عائداً لمقره الرسمي وسط أنغام الأبواق الصاخبة. وفي تلك اللحظات كانت عملية فك شفرة محتويات برقية الحكومة البريطانية قد اكتملت. وتبين من رد الحكومة أنها توافق من حيث المبدأ على تقديم انذار للحكومة المصرية، رغم عدم اتفاق أعضائها على الصورة التي صاغ بها اللنبي ذلك الإنذار، فقد اتسمت الأجزاء الأولى منه بعنف وفظاظة تزيد عما هو مطلوب في هذه الحالة، وتم تعديله. كذلك عُدل الجزء المتعلق بالمساحة المروية (غير المحددة) في الجزيرة، وحُذِفَ بالكلية الجزء المتعلق بالتعويض وإزالة القيود المفروضة على المصالح الأجنبية. غير أن كل ذلك أتى متأخراً جدا عن موعده. فقد تسلم سعد زغلول نص الإنذار الذي صاغه اللنبي. وعبرت حكومة زغلول عن صدمتها من حادثة الاغتيال، وقبلت بدفع الغرامة التي حددها الإنذار في غضون ثلاثة أيام، غير أنها رفضت بقية البنود التي وردت في الإنذار، وقدمت استقالتها (في 23 نوفمبر 1924م). وبذا وقع عبء تنفيذ بقية المطالب الواردة في الإنذار على أحمد زوير باشا، رئيس الوزراء المصري الجديد، الذي كان يشغل منصب محافظ الإسكندرية، وهو رجل سمين ومرح، وصاحب وجهات نظر شديدة الاعتدال. وأفلح زوير في التعاون مع اللنبي واقناعه بتعديل بعض مطالبه. واقتطعت الحكومة البريطانية من الغرامة التي دفعتها مصر مبلغ 30,000 من الجنيهات الإسترلينية ومنحتها لزوجة لي استاك، والتي تبرعت بها للمصلحة الطبية في حكومة السودان لإنشاء مستشفى في باخرة على النيل سُمِّيَ (لي استاك)، خُصِّصَ لعلاج أمراض العيون الشائعة في السودان. وقُبِضَ لاحقا على من أغتال لي استاك، وعلى المتواطئين معه، وحكم عليهم بالإعدام.


3/ وبقيت أمام البريطانيين مسألة أهم، ألا وهي إخراج أفراد الجيش المصري من السودان (وهم يمثلون غالب أفراد جيش الحكم الثنائي بالبلاد). وكان هناك شك في أنهم سيخرجون من السودان دون مقاومة. غير أنهم أُخْرِجُوا بالفعل بفضل توجيهات الجنرال هيدليستون، ولم تُسمع إبان عملية الإجلاء الإ أصوات بعض الطلقات النارية. وطُرِدَ من السودان كذلك بعض الموظفين المصريين الذين كانوا يوالون سعد زغلول (رغم أن ذلك لم يكن واحداً من بنود الإنذار الذي قدمه اللنبي). وغادر غالب الموظفين المصريين الآخرين من تلقاء أنفسهم لعدم رغبتهم في العيش في أجواء معادية. وبذا اختل التوازن الدقيق الذي صاحب الحكم الثنائي اختلالا هائلاً. ولم يبق لمصر في حكم السودان من رموز سوى عضويتها في مفوضية الحاكم العام، وعلمها الذي بقي يرفرف فوق قصر الحاكم العام، والمباني الحكومية الأخرى (في أيام الأعياد)، وعلى سيارة الحاكم العام على يسار العلم البريطاني. وكان اللورد اللنبي يرى ضرورة الإبقاء على العلم المصري بالسودان، لاستخدامه كورقة مساومة عند الضرورة في المستقبل.
غير أن ما لم يكن متوقعاً هو تمرد بعض القوات السودانية مباشرةً بعد إجلاء الجيش المصري قسراً. وكان المصريون يرون أن بينهم وبين السودانيين روابط دينية ولغوية مشتركة، ويعتمد الشعبان على مياه نهر واحد. غير أن دعايات المصريين كانت قد اتخذت منحى أكثر عمقاً، وشكلاً شخصياً أشد تغريراً ومكراً. فقد أقام (بعض) الضباط السودانيين علاقات أخوة مع الضباط المصريين في كثير من مدن السودان، وكانت لهم أندية مشتركة. وكان حاكم عام السودان وينجت باشا قد أقر سياسة تنظيمية للضباط السودانيين لا يمكن بموجبها للضابط السوداني، مهما كانت مدة خدمته العسكرية، أن يتخطى رتبة يوزباشي (نقيب)، وألا يزيد راتبه عن 400 £ في السنة؛ بينما كان المحارب البريطاني الأحدث القادم على سبيل الإعارة يمنح رتبة بمباشي (رائد)، ويحصل على راتب قدره 600 £، وبالتالي كان يحق له الحصول على التحية العسكرية من أكثر المحاربين القدامى السودانيين تميزاً في العديد من الحملات الحربية. علاوةً على ذلك، لم يتباطأ المصريون بالطبع في الإشارة إلى أنه، في حالتهم، لم يكن هناك حد للرتبة والمكافآت التي يمكن أن يطمحوا لنيلها عند إظهار القدرة، وأن ما بين 1200 إلى 1500£ سنوياً كان هو الأجر الطبيعي لحامل رتبة العقيد (الأميرالاي)، وهذه الرتبة تحمل معها في كثير من الأحيان لقب بيه. غير أنه يجب ذكر أن الضباط البريطانيين لم يكونوا أعضاءً في الأندية التي كانت تجمع الضباط المصريين والسودانيين، بل كانوا منعزلين عنهم ويمارسون هواياتهم الخاصة (مثل الصيد ولعب البولو) بمفردهم. وبالجملة، لم يكن تنظيم ذلك الجيش تنظيماً مرضياً.
وكان تمرد أفواج القوات السودانية (ضمن الفصائل السودانية الحادية عشرة) قد بدأ بالخرطوم في 28 نوفمبر. وتظاهر هؤلاء في شوارع الخرطوم، فخرج إليهم الجنرال هيدليستون من دون سلاح أو حراسة محاولاً تهدئتهم، وهو لا يحمل سوى عصا يتوكأ عليها. غير أن قادتهم أظهروا عناداً قوياً، وآبوا إلى ثكناتهم وتحصنوا فيها، وهناك حُوصروا حتى استسلموا في النهاية. ولكن الضرر كان قد وقع بالفعل. لقد كان هناك سبب للاعتقاد بأن المشكلة كانت منتشرة على نطاق واسع، وتم اتخاذ القرار المؤلم بحل تلك الكتائب السودانية الشهيرة (رقم 9 و10 و11 و12و 13) – المشهورة منذ أيام حربي أم درمان وفشودة بسبب الدور الكبير الذي أدته في إعادة احتلال وبناء السودان الإنجليزي- مصري.
وبذا كانت أولى مهامي الحزينة بعد وقت قصير من وصولي للخرطوم هو حضور آخر عرض عسكري في ساحة القصر لتلك الكتائب الملونة والمميزة حقاً.


4/ بعد إجلاء القوات المصرية وحل الكتائب السودانية، بقي السؤال عما يمكن فعله بعد ذلك. وتم تكوين ما عُرِفَ بـ “قوة دفاع السودان”، وأقسم جميع الضباط السودانيين في تلك القوة على الولاء لملك مصر. وكان من المفترض أن يكون ذلك الولاء لملكي مصر وبريطانيا، غير أن الملك جورج الخامس أكد في إصرار شديد أن لا شيء يمكن أن يدفعه للتوقيع على أي وثيقة بالاشتراك مع الملك فؤاد؛ وعلى أية حال، فهو لم يكن يرى أدنى سبب لمصر أن تتدخل في مسألة تؤثر فقط على القوة البريطانية! وإزاء هذه المعضلة، وفي غياب أي بديل، تلقيت تعليمات من وزير الخارجية أوستن تشامبرلين لإصدار قرارات التعيين باسمي كممثل لملكي بريطانيا ومصر. ثم ظهرت عقبة أخرى تتعلق بكون الضباط السودانيين في “قوة دفاع السودان” يدينون بالإسلام، وثار سؤال حول نقضهم لقسم الولاء الذي أدوه لمصر. وهنا جاء دور “قاضي الأمة” والعاملين تحته، والمفتي الأكبر وبقية القضاة والزعماء الدينين الآخرين لطمأنة ضمير المسلمين.
(أورد المؤلف صورة لقسم الولاء الذي كان على جميع ضباط “قوة دفاع السودان” التوقيع عليه، باللغتين العربية والإنجليزية” جاء في بعض أجزائه:
“إلى حضرة ……..
إن صاحب الدولة حاكم عام السودان العام، نظراً لما يضعه بكم من الثقة التامة، ولما يعهده بكم من الإخلاص والشجاعة وحسن السيرة، قد انتخبكم وعينكم ضابطاً في جيش دفاع السودان اعتبارا من اليوم الأول من شهر نوفمبر 1925م ….
عليكم أيضاً أن تطيعوا طاعة تامة وفي كل الأوقات أوامر صاحب الدولة حاكم عام السودان وأوامر حكومته وأوامر القمندان الذين تؤدون واجباتكم تحت قيادته مباشرة أو أي ضابط آخر برتبة أعلى منكم ……”)


5/ أفرد المؤلف فصلاً كاملاً في كتابه تناول فيه زيارته للجزيرة أبا، ووضع قبله صورة فتوغرافية له مع السيد السير عبد الرحمن المهدي وهو يستقبله في صحبة مدير مديرية النيل الأبيض، ومعهما المترجم الفوري المصري أحمد الرفاعي. وبدأ المؤلف هذا الفصل (العشرين) بمواضيع متنوعة منها زيارة زوجة من سيشغل منصب نائب الملك في الهند، وافتتاحه لخزان سنار ومشروع ري الجزيرة في يناير 1926م، وعن رغبة المفوض السامي البريطاني في مصر لويد وزوجه زيارة سجن أم درمان العمومي (الذي كان قد شهد تمرداً للمساجين قبل فترة وجيزة)، وزيارة أسقف أكسفورد للخرطوم. وذكر أنه كان قد سافر للقاء حاكم أوغندا في نمولي لبحث بعض المشاكل الحدودية بين البلدين، وأنه كان قد وعد السيد عبد الرحمن المهدي بزيارته في أبا في أقرب فرصة ممكنة. وأشار إلى أنه كتب رسالة للمفوض السامي في مصر يوم 18 نوفمبر 1925م يخبره فيها عن ابن المهدي، وذكره فيها بأنه أحد أهم زعيمين دينيين بالسودان (الآخر هو السيد السير علي الميرغني). وأقترح عليه وضع اسم السيد عبد الرحمن في قائمة من يرشحهم لنيل لقب “فارس فخري وحامل وسام الإمبراطورية البريطانية”. وذكره أيضاً بأنه قد تلقى تقريرا من مدير المخابرات السابق، ومن نائب مديرها الحالي يفيد بأنه تجري ا(الآن) في أرجاء البلاد عملية إِحياء وتمدد للمهدية، وأن هذا تطور خطير ينبغي تداركه. وخلاصة الأمر هي أن تلك الحركة تشكل دون ريب خطراُ كبيراً، فهي حركة تمتد عملياً من النيل إلى نيجيريا. والسيد عبد الرحمن (ابن زعيم تلك الحركة) يجسد الآن تلك الحركة. وأضاف جيفري آرشر: “غير أن السيد عبد الرحمن، لحسن الحظ، يساند بريطانيا العظمى بقوة. وكنا قد لجأنا إليه طلباً في المساعدة في عدد من الأحوال والمواقف التي واجهتنا، واستجاب لنا بكل شجاعة وولاء. وقدم لنا خدمات عظيمة عندما دخلت تركيا في الحرب (العالمية الأولى)، وعندما واجه – مرة أخرى – الدعايات المصرية ضدنا حين قمنا بطرد القوات المصرية من السودان تحت ظروف صعبة. لذا لا أجد لنا شيئا نفعله تجاهه سوى الاعتراف رسميا بكل ما ذكرته، والعمل على إرضاء طموحاته التي نتفهمها. وكما يقول العرب في أحد أمثالهم “يمكنك أن تقودنا عندما تأسر قلوبنا، وليس عندما تجرنا من أنوفنا”. إن أفضل شيء يمكن لنا فعله هو أن نُرَى السيد عبد الرحمن أننا نثق فيه ثقة كاملة”.
وعند مقابلتي للمفوض السامي طرحت عليه بعض النقاط الإضافية، كان منها:
أ/ لقد ظللت أتشاور مع السير ويزي ستيري والعقيد شوستر والسيد ويليس والسيد ماكمايكل حول هذا الأمر. وفيما عدا السيد ماكمايكل، وجدت منهم عملياً موافقة تامة. ولكن، من خلال توصيتي (التي كانت من باب المنفعة السياسية المحضة) بوضع اسم السيد عبد الرحمن المهدي على قائمة من سيمنحون الوسام البريطاني الذي تعلق قلبه به، أود أن أوضح أنني كنت بتلك الخطوة أتخذ إجراءً قد يُساء فهمه في بعض الأوساط، وقد لا يحظى بشعبية لدى بعض أفراد في القسم السياسي. ومع ذلك، فالمتفرجين ليسوا دوماً في أفضل وضع للحكم على الأشياء. لقد بررت تصرفي بسببين: (أ) كمكافأة لخدمات سابقة، و (ب) كتأمين وضمان للمستقبل.
ب/ كان الملك جورج الخامس قد اتخذ الخطوة الأولى باستقباله للسيد عبد الرحمن المهدي في قصر بكينجهام عام 1919م. وكان الملك قد أعاد له سيف والده الذي قدمه هديةً له، ونصحه بالاحتفاظ بذلك السيف “من أجل الدفاع عن الملك والامبراطورية للأبد”. وكان السير ونجت هو من حض على ذلك. وفي ذات العام كان السير استاك قد استقبل السيد عبد الرحمن، والذي شكا له من أنه قد قدم للحكومة كل ما في وسعه من خدمات، ورغم ذلك لا زالت الحكومة تنظر إليه بعين الريبة والشك. وطمأنه السير استاك وقال له أنه يعترف بولائه للحكومة من دون أي تحفظ. وأكدت الحكومة ذلك الموقف مجددا في عام 1921م في خطاب أرسلته للسيد عبد الرحمن.
ج/ أخيراً، وعلى افتراض أن السيد عبد الرحمن سيمنح ذلك الوسام، فينبغي أن نصل معه لتفاهمات حول خطورة مسؤولياته، وأن نضع له شروطاً هدفها الحد من نشاطات أنصاره.
وبعد أن تم إبلاغ السيد عبد الرحمن بأن اسمه قد وضع في قائمة الشرف للعام الجديد (ومنحه لقب “فارس فخري وحامل وسام الإمبراطورية البريطانية”)، عجل الحضور للخرطوم ليشكرني على ترشيحي لإسمه لنيل ذلك الوسام. وانتهزت الفرصة لأتبادل معه “حديث القلب للقلب”. وقد سعدت بما ذكره لي من تطمينات وتأكيدات على ولائه للحكومة. وكنت أعتقد أن هذا يكفي لإزالة شكوك ومخاوف أعضاء “مجلس الحاكم العام” من مد يد الصداقة لابن المهدي، الذي أعده الآن أهم شخصية سودانية في البلاد.
وأخيراً ذكرت للسيد عبد الرحمن أني أعتمد عليه كمؤيد ومدافع عن الإدارة البريطانية، وأتوقع منه أن يأتي إلى ليخبرني عند قرب حدوث أي اضطرابات أو قلاقل بالبلاد. فتاريخ السودان حافل بالاضطرابات التي قد تقع دون أن يكون للحكومة أدنى علم أو إنذار بقرب حدوثها. وأكد السيد عبد الرحمن، في رده على طلبي، على ولائه الكامل، وطمأنني بصلابة موقفه المؤيد للحكومة، حتى وإن كان ذلك سيؤثر على أتباعه. وأخيراً ذكرني بوعدي القديم له بزيارته في الجزيرة أبا، ووعدته بالزيارة في أقرب الآجال.


6/ تناول المؤلف بعد ذلك تفاصيل زيارته لأبا بباخرة رست على الجزيرة في يوم 14 فبراير 1926م عند الساعة العاشرة صباحا، وفي معيته السيد نيكولس مدير مديرية النيل الأبيض، والسيد بروس قاردن باشمفتش كوستي، ودكتور لورزان. واستقبلهم السيد عبد الرحمن وأحد إخوته وأبناء إخوانه، وأفراد عائلته الآخرين، وجمع كبير من الأنصار بلغ عددهم نحو 1,500 فرداً. وألقى السيد محمد الخليفة شريف كلمة ترحيب بالحاكم العام، أشاد فيها بالزائر الكبير وبتكرمه بالزيارة. ورد الحاكم العام بكلمة قصيرة، شكر فيها السيد عبد الرحمن وأنصاره على الحفاوة التي أظهروها له، وذكر السيد عبد الرحمن بسيف المهدي الذي أهداه للملك جورج الخامس في عام 1919م، وإعادة الملك لذلك السيف له ليستخدمه في “الدفاع عن عرشه وامبراطوريته”. وفي هذا دليل قاطع على محو أي شكوك (قديمة) حول ولاء السيد عبد الرحمن للحكومة. وذكره أيضاً بأنه رشحه لنيل ” وسام الإمبراطورية البريطانية”.
وبعد انتهاء مراسم الاستقبال، أخذ السيد عبد الرحمن ضيفه ومرافقيه إلى داره الجديدة لتناول المرطبات، ثم وجبة حافلة بمطايب الطعام. وجاء في تقرير صحفي عن تلك الزيارة أن أحد من شهدوا تلك المأدبة قال متعجباً أنه لم يكن يدري أهو في لندن أم في السودان؟
لقد كانت ساعة من المتعة الخالصة والرفقة الطيبة. بعدها قفل الحاكم العام عائداً إلى باخرته متجها صوب جنوب البلاد.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.