رحلتي إلى آخر الدنيا (4):زمردة المدائن

رحلتي إلى آخر الدنيا (4):زمردة المدائن
  • 31 يوليو 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

صحوت من النوم مبكرا في الفندق الذي قضينا فيه ليلتنا في سانفرانسيسكو ودلفت للاستقبال استفسر إن كان في نطاق خدماتهم الشاي والفطور كما مألوف في بعض الفنادق العالمية النظيرة فقالوا:
الشاي على يمينك ولا تشمل خدمتنا الفطور لكنه متاح بالخارج.
وجدت أمامي الماء المغلي وعبوات الشاي الأخضر والبن واللبن فحملت المطلوب وفي انصرافي شكوت من لسعات البرد ليلا فقالوا:
لم لم تشغل السخان؟
قلت:
لم أفطن له فجاء معي الموظف وأدار مفتاحا دائريا مثل مفاتيح المراوح لدينا فسرى الدفء الأمر الذي لم أعرفه لجهلي فقد انتهى علمي عند السخان شبيه الرتينة فقلت في نفسي:
عرفنا حاجة!
خرجت للفطور فوجدت عمارات فخيمة تطل على ضفتي الشارع فيما نهر السيارات ينساب. وسألت أول من صادفني مكان كافتيريا فتلجلج في الكلام مع تعثر لا يقوى معه على المشي فتنبهت لزجاجة خمر نصفها لايزال مملوءا فأسرعت مبتعدا وأنا أتمتم بدعاء السيد المسيح:
اللهم لا تدخلنا في تجربة!
عند ناصية الشارع أرسلت بصري ليصافح ناطحات سحاب باذخة ترنو للسماء ثم دخلت كافتيريا قربي فاستقبلتني شابة تشرق بابتسامة المهنة العذبة’ التي تقتضي جذب العملاء فطلبت قائمة الطعام ثم حددت نصفي دجاج مشوي منفصلين وكأسي عصير فواكه مشكل كبيرتين فقالت:
تفضل بالجلوس .. معك بعد ١٠ دقائق وقد كان وخلالها وجدت رفا يعج أمامي بمختلف المشروبات الكحولية وزبائن يقتنون ما يفضلون.
تناولنا الفطور عالى اللذاذة في الغرفة فقد كان مع الطلب علبة بلاستيك مملوءة طرنشات بطاطس بلغة الطهاة وهي شرائح مستطيلة شفافة .. مسلوقة متراكبة معدة بزبدة على ما يبدو .. جربوها لن تندموا!
ما إن فرغنا من الطعام حتى أفادني الاستقبال بأن العاشرة أزفت وسيارة الأجرة على الباب.
اسرعنا نلملم أمتعتنا ونراجعها ثم خرجنا نشكر الاستقبال وننصرف للسائق الذي رفع الشنطتين وانطلق بنا.
كنت اجول ببصري فضاءات المدينة الاستراتيجية وتلالها يانعة الخضرة ومساكنها الغاطسة فيها حتى وصلنا المطار فدفعت له ٥٠ دولارا والعداد بلغ ٤٨.
سحبنا الشنطتين لكاونتر خطوط ألسكا فشحنوهما وزودونا ببطاقتي صعود الطائرة ثم وجهونا للبوابة الخاصة برحلتنا التي لم تكن بعيدة.
انتظمنا في الصف حتى وصلنا الموظف الذي دقق في جوازينا اللذين رفعهما في واجهة الضوء للتيقن من صحتهما كشأن الآخرين.
بعدئذ رفعنا حقائبنا اليدوية على سير التفتيش الإلكتروني مع كل ما في جيوبنا ثم اسرعنا نلتقطها من الجانب الآخر.
سرنا قدما ودخلنا الصالة الداخلية وبعد لحظات رأيت مراجعة الجوال فلم أجده فجن جنوني فهو وسيلة تواصلنا الوحيدة.
هرولت لموقع التفتيش استطلع فوجهوني لتربيزة بعيدة مختصة بالمفقودات فعندما حدثت الموظف عن جوالي اسرع يخرجه لي من الدرج بل فاجأني بقوله:
وكنت تركت قروشك أيضا فسلمني الدولارات والعملة السودانية كاملة فشكرته بحرارة.
كان المايكرفون يعلن السفريات قيد الإقلاع إلى مختلف الوجهات:
لاس فيجاس .. شيكاغو .. دالاس .. لوس انجلوس’ وهكذا.
أخيرا أعلنت رحلتنا فأسرعنا للدخول واجتياز الموظفين وفي جوف الطائرة وجدناها مكتظة بالخواجات فقادنا المشرف لمقاعدنا.
بعد دقائق زحفت الطائرة وعلى يمنانا خليج سانفرانسيسكو تطل عليه فلل فائقة البهاء ومن خلفنا جسر البوابة الذهبية الرابط جزئي المدينة الواصل بين الخليج والمحيط الهادئ أو الباسفيكي فنحن في آخر جزء من أقصى غربي المعمورة فالطائرات تتجه من هنا غربا لتصل اليابان والفلبين في الشرق الأقصى بحكم كروية الأرض وعلى الأدق بيضاويتها.
حلقنا مدى نحو ساعتين قطعنا فيها كاليفورنيا وولاية اريقون ثم دخلنا ولاية واشنطن مقصدنا المحاددة كندا.
أرى تحتي بحيرة يحفها الشجر فيما تدنو عجلات الطائرة من ممر مطار سيتاك الدولي في مدينة سياتل الذاخرة ب ٣ مطارات تستقبل نحو ٣ ملايين مسافر شهريا في مواسم الصيف والربيع والرابع للشحن الجوي حيث تحط في هذه المدينة الحيوية على مدار اليوم طائرة كل دقيقة وتقلع أخرى بل أكثر!
هرولنا مع الخلق لتسلم عفشنا الذي وجدناه في الصالة الثالثة ثم خرجنا عبر البوابة ٢٥ ولم يفلح جوالي في التواصل لذا لم يكن أمامنا سوى الانتظار.
ها هو الابن محمد يسرع تجاهنا من اليمين صائحا جزلا:
يا سلام أبوي وأمي شباب فكان العناق الطويل بعد سفره منا في الرياض للدراسات العليا قبل ٦ سنوات.
ثم تقدم يحيينا بحرارة صديقه المهندس جمال الذي تلطف برفع العفش في السيارة التي انطلقت بنا.
في الطريق توقف محمد للتزود بالطعام من مطعم جوبا الشهير. والتسمية تيمنا بنهر بلادهم الصومال الذي يصب في المحيط الهندي.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن جوبا عاصمة دولة الجنوب يتجه المسؤولون لنقل العاصمة السياسية منها لبلدة رامشيل بالبحيرات لتوسطها البلاد وتفاديا لاحتجاجات الدينكا تجاه تغول السلطات والمستثمرين على أراضيهم. والبحيرات معقل وحيد القرن شعار السودان الأول قبل إحلال صقر الجديان أكبر الجوارح مكانه في عهد نميري.
المعروف أن مصر تستكمل بدورها عاصمتها الإدارية الجديدة في منتصف طريق القاهرة .. السويس لنقل الوزارات والسفارات والبرلمان وغيرها حيث تشيد الصين في قلبها أعلى ناطحة سحاب في إفريقيا.
أخيرا وصلنا البيت وبعد الفراغ من الغداء المتأخر ذهب محمد ووالدته في جولة على أقسام البناية فيما دهمني نعاس ملحاح قادني لأتمدد على سريري غائصا تحت غطاء دفيء سبح بي في هناءة نوم مديد عميق.

سياتل .. ولاية واشنطن

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.