خمسة أعوام مضت على رحيل الحبيب الإمام الصادق المهدي -عليه الرحمة والرضوان-، ولم تنقطع ذكراه وحضوره في الوجدان الشعبي والسياسي والفكري للسودانيين، وفي وجدان كل معارفه وأصدقائه في العالم. لقد ظلَّ طوال مسيرته الطويلة أكثر زعيم قائد، إذ عُرف بأنَّه صاحب فكر سديد، ورأي منفتح، وضمير وطني حيٌّ. ظلَّ يجمع بين الأضداد في الساحة السياسية في طريق جمع الصف، ووحدة الكلمة بالحكمة، ويُصوِّب بالبصيرة، ويُقدِّم المبادئ والقيم على الحسابات السياسية الآنية، والمكاسب الشخصية الضيقة.
جاء اسم الصادق الذي كان يحب أن يُنادى به مجرداً، وما تبع ذلك من مسميات لشخصه الكريم، لتحمل معاني وقيم تلك الأسماء، لتُشكِّل بذلك سيرته التي تسير بين الناس على الأرض، وبين الركبان. لم يكن اسم الإمام مجرد تعريف شخصي، بل كان هوية كاملة تعكس بصمته في الحياة العامة.
فقد كان صادقًا في القول والعمل، ثابتًا على المبدأ مهما اختلفت السياقات وتعقَّدت المواقف.
وكان إمامًا يقود بالعلم والمعرفة والحجة المستندة إلى الشورى، لا يرفع صوته فوق صوت العقل، ولا يضع ذاته فوق المؤسسة.
وكان حكيمًا يرى أبعد مما يرى الآخرون، يستشرف الخطر قبل وقوعه، ويوازن بين الخيارات عندما تتشابك دروب السياسة، وتتعدِّد المواقف، وتتعقد؛ ليعود بالأوضاع إلى مسارها الصحيح.
وكان حقّانيًا لا يميل مع الهوى، يُنصِّف حتى مخالفيه في الرأي، ويرفض الظلم ولو خسر موقفاً أو مصلحة من وراء ذلك.
هكذا تماهت دلالات أسمائه مع ممارساته، حتى صار اسمه رمزاً لسلوكٍ سياسي راشد نادر من نوعه، وخلقٍ عام رفيع ومدهش عُرف به محليَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً.
جهاد الإمام الطويل والمستمر لم يكن بالسلاح، بل بالفكر والكلمة التي تُنير الطريق، والموقف الذي يرفع من شأن الوطن. ظلَّ يدعو إلى الوحدة الوطنية؛ بوصفها الركيزة التي لا تقوم دولة دونها، وإلى الحرية والديمقراطية لكونهما الطريق الوحيد لجمع الكلمة ووحدة السودان، وهو طريق النهضة والنماء، ويدعو إلى السلام العادل الشامل الذي يجمع، ولا يُقصي، ويُصلح، ولا يُساوم على العدالة.
وفي إطار ترسيخ هذه القيم النبيلة، فإنَّ من أهم ما تركه الحبيب الإمام قبيل رحيله هو “مشروع العقد الاجتماعي”. ذلك المشروع الفكري والسياسي الذي فصَّله كالـ “روشتة” التي أرادها خارطة طريق لعلاج أزمات السودان، التي تضمَّن دعوة صريحة وواضحة لبناء دولة المواطنة، وترسيخ سيادة حكم القانون، وإقامة نظام حكم راشد يشارك فيه الجميع دون إقصاء. لقد كان من المؤمل أن يكون هذا المشروع، بما حمله من رؤية متوازنة، مدخلاً طبيعيَّاً ومخرجاً لشفاء الوطن من أزماته المتراكمة، لو تواثق الفاعلون السياسيون وتبنُّوا مضمونه بروح منفتحة ومسؤولية وطنية.
كان الإمام من أوائل من حذروا ومن وقت مبكر من انحدار البلاد نحو الهاوية إن لم تتوحَّد الكلمة، ويعلُو صوت الحكمة. لكن من المؤسف أنَّ صوت الحكيم وخطاه ضاعا وسط ضجيج الصراعات، وتواضع رؤية كثيرين ممن قادتهم المصادفات إلى قيادة العمل الوطني. واليوم تبدو تلك التحذيرات أشبه بمرآة تعكس ما آل إليه الحال من حربٍ مدمرة، وتمزق جسد الوطن.
ولعله من المؤسف أن تمرَّ ذكرى الإمام في ظروف الحرب القاسية التي تمرُّ بها بلادنا اليوم، والتي ظل يحذر منها دوماً، وفي وقت نكث فيه بعض من استوثقهم العهد والأمانة التي حمَّلها لهم، ابتعاداً عن خطه المستقيم، وانجرافاً وراء حسابات ضيقة تناقض تماماً المبادئ والقيم التي نذر الإمام حياته من أجلها.
واليوم يقف السودان في مفترق طرق، ولا نجاة إلا بالعودة إلى تلك القيم التي ظلَّ الإمام يدعو إليها بإلحاح، والتي تتضمَّن عقلانية الخطاب، وعدالة الحكم، والرحابة في ساحات العمل السياسي والاجتماعي، وصوتاً واحداً للوطن يعلو فوق الأصوات الداعية إلى تفتيت السودان، وبعداً عن الاصطفافات الجهوية والقبلية وتجمعات المصالح الضيقة. وانطلاقاً من ذلك، نأمل أن تتجه إرادة الشعب السوداني لإيقاف الحرب، وجمع الصف الوطني؛ لاستعادة روح الدولة، وهيبتها، وإحياء مشروع السلام والديمقراطية على أسس العدالة.
فلنبدأ جميعاً بتبنِّي “العقد الاجتماعي” الذي تركه الإمام خارطةً للطريق، مع الترحيب بكل تطوير يستصحب المستجدِّات لتُشكِّل رؤية متكاملة تعيد للسودان استقراره، ولشعبه ثقته، وللوطن روحه التي توقفت عند آخر كلمات الحكمة.
رحم الله الإمام الصادق المهدي، الذي غاب جسده، وبقيت مبادئه وقيمه حيَّة، وبقيت سيرته شاهداً على أن الصدق والحكمة والمبدئية مسؤولية، وأنَّ الوطنية ليست خطاباً، بل ممارسةٌ تُبذل من أجل أن يبقى الوطن.